قد يكون الصمت أحيانا معزوفة ممتعة تسافر بنا عبر نشوة اللامبالاة والاسترخاء الفكري ، وقد يكون حكمة وفلسفة ، وقد يكون ذهبا ، وقد يكون أبلغ رد لما لا يكون للكلام جدوى،وقد يكون حاجة روحية للتأمل والسكينة ؛ لكن في أغلب الأحيان يصبح الصمت انكسارا وجبنا لما يتحول لثقافة وأسلوب عيش ومنهج حياة .. ويصبح عارا، لما يمتثل لسلطته المثقف الذي تنتظر منه الجماهير أن يكون صوتها ومرشدها في الأزمات و نبراسها المعرفي في المنعرجات التاريخية الحاسمة ، وحليفها الرمزي في معركة الكرامة و الحرية والتغيير..
لما كسر الشعب قيود الصمت ،صمت المثقفون .. ولما تحررت الناس من أغلال الخوف ، انسحب نجوم الفكر والمعرفة و الابداع والفن من حلبة الجدال الفكري والسياسي والثقافي ومن ساحات الاحتجاج واختاروا التلصص على ثورة الشارع من كوة برجهم العالي و من خلف الكواليس .. والتزموا الحياد السلبي اما في انتظار التعليمات ، أو في انتظار نهاية المعركة الميدانية لإحصاء الخسائر والضحايا وتفسير الأسباب والمسببات وتبرير الانزلاقات والانتهاكات ، وبعدها يرتفع الصوت بتقديم الولاءات للجهة المنتصرة ، وتدبيج قصائد المديح في نصرة مشروعها السياسي..
لما تكون السلطة السياسية الحاكمة في حاجة لتمرير خطاباتها الدعائية والتطبيل لانجازاتها وتبرير خياراتها ، تجد أكثر من صوت ثقافي لتمرير رسالتها ، وينخرط بعض المثقفين في فرقة المادحين وفريق المفسرين ،مسلحين بالأرقام والحجج العلمية ،ويستفيضون في خطابات لامتناهية في شرح الابعاد الاستراتيجية لخطط الدولة التنموية وسياستها الرشيدة في خدمة المواطن وضمان الاستقرار والوحدة والتضامن والحكامة و... وباقي المصطلحات الرنانة التي فقدت معناها من كثرة التكرار في تدخلات الخبراء والمحللين في وسائل الاعلام الرسمية ..
ولما تحتاج الجماهير الحالمة بالحرية والعدالة والكرامة لصوت المثقف ، يتحول هذا الأخير لشيطان أخرس ومفكر نخبوي متعال ، يعتبر الانحياز للناس شعبوية، ونصرة العامة مس باستقلاليته الفكرية، والاحتجاج ضد الظلم والقمع والمطالبة بالرغيف والعيش الكريم تحقير لوظيفته المعرفية في تفسير العالم وإنتاج الأفكار وإبداع الجمال والفرح ..
لما صمت المثقفون وتنازلواعن دورهم التنويري والتأطيري للمواطن، واستقالوا من وظيفتهم الاجتماعية في مقاومة الجهل والتخلف ، وانسحبوا اختيارا أو اضطرارا من معركة المطالبة بالتغيير والدفاع عن قيم الحياة والكرامة والاختلاف والانفتاح ، فسحوا المجال للمد السلفي المتحجر ، وخلت الأجواء لتغلغل التيارات الفكرية المتطرفة التي اعتمدت الخطاب الديني العاطفي في حشد الأتباع ، ونهجت خطاب التكفير والتخوين لإسكات الأصوات الحداثية في النقاش العمومي حول قضايا المعتقد والمساواة بين الجنسين والحريات الفردية وحرية الابداع.
المثقف مخير بين الصمت أو التعبير عن رأيه ، بين الانحياز لسلطة المعرفة أو سلطة الجمهور أو سلطة الحاكم ، والمثقف حر ويمتلك كل الحق في أن يكون ناطقا باسم الشعب اذا شاء، أو بوقا لاختيارات الدولة السياسية ،لكنه ملتزم في كل الحالات أن يكون صوتا للحق وأن لا ينزوي للصمت الهروبي المشلول حينما تتطلب اللحظة التاريخية الجهر بالرأي في المعارك الحاسمة لإرساء قيم العدالة والحرية.. فالحقيقة لا يعبر عنها إلا الصوت العالي ، أما الكذب كما قالت الشاعرة الأمريكية " أدريان ريتش " فيكون بالكلام وأيضا بالصمت .