نعم حرب الثمانية أيام قتلت 161 فلسطينيا، وخلفت أكثر من 1200 جريح، ودمرت أجزاء كثيرة من غزة المحاصرة، لكن صواريخ حماس، وإرادة أبناء المقاومة، ودماء الشهداء، ورياح الربيع العربي، جعلت إسرائيل هذه المرة تتألم أكثر من الفلسطينيين، وتسارع إلى طلب وقف إطلاق النار واستعجال الوساطة الأمريكية والمصرية.
ماذا حدث في ميزان القوى الإقليمي والدولي حتى أصبحت إسرائيل تستعجل وقف إطلاق النار؟ ماذا جرى لميزان القوى هذا الذي اعتقد العقل الرسمي العربي أنه لن يميل يوما لغير صالح الإسرائيلي، الذي يملك أقوى جيش في المنطقة، وأكبر ترسانة نووية، وأعظم حليف في العالم.. الولايات المتحدة الأمريكية؟
من يصدق أن اليمين الإسرائيلي، الذي لا يوجد في علب برنامجه سوى قتل الفلسطينيين ودفعهم إلى التخلي عن حقوقهم المشروعة في الأرض والسماء، سيرضخ لشروط حماس، ويقبل فتح المعابر والتوقف عن اغتيال القادة، والسماح للبشر والبضائع بحرية التنقل بين غزة وباقي الأراضي المحتلة؟ إنه مفعول ثلاثة أسلحة لم تجتمع كلها في يد المقاومة قبل هذا التاريخ.
أولا: سلاح الردع المتمثل في الصواريخ التي كسرت أسطورة الأمن الإسرائيلي الذي لا تمتد إليه أية يد مهما طالت. على مدار ثمانية أيام أطلقت حماس أكثر من 1200 صاروخ على إسرائيل وصل بعضها إلى تل أبيب. صواريخ من صنع محلي وأخرى قادمة من إيران.
هذه أول مرة يهدد فيها الفلسطينيون سماء إسرائيل التي زرعت في العرب، على مدى 50 سنة، أسطورة الجيش الذي لا يقهر. إلى آخر ساعة قبل الاتفاق على الهدنة ظلت الصواريخ تنطلق من غزة لا يمنعها الغطاء الجوي الذي كبس على سمائها. هذا تحول استراتيجي كبير في المنطقة سيكون له ما بعده.
ثانيا: الذي دفع إسرائيل إلى استعجال الهدنة مع الفلسطينيين وإلغاء الاجتياح البري من أجندة العدوان، هو رد فعل دول الربيع العربي التي لم تقف مكتوفة الأيدي كما كانت تفعل أنظمة الاستبداد العربي، التي كانت تقف مع إسرائيل وأمريكا ضد الفلسطينيين، من خلال لعب دور الوساطة الزائفة. الرئيس المصري محمد مرسي سحب سفير بلاده من إسرائيل ساعات بعد العدوان، وبعث رئيس حكومته إلى غزة لإعلان التضامن. تونس فعلت الشيء نفسه. طار وزير خارجيتها إلى غزة لأول مرة وتبعه وزير خارجية تركيا وجامعة الدول العربية. المغرب بعث بمستشفى متنقل إلى غزة لتقديم المعونات، أما الوزير العثماني، الذي لم يسافر إلى غزة، فقد ارتكب غلطة كبيرة لن تمحى من سيرته في الوزارة بسهولة. ثم لحق بالجميع ما كان يسمى بمحور الاعتدال العربي الذي كانت دوله تلعب دور الإطفائي الذي يخمد النيران التي تشعلها إسرائيل، ثم ترجع إلى أماكنها في انتظار انفجار الوضع مرة الأخرى وارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين.
مرسي، ودون أن يهدد بالحرب مع إسرائيل ولا بإلغاء اتفاقية كامب ديفيد، استطاع أن يضغط على أمريكا وعلى أوربا وعلى إسرائيل، وأن يقول للجميع إن ثورة 25 يناير لن تقبل أن تلعب دور نظام مبارك الذي كان يضغط على الضحية الفلسطيني عوض معاقبة الجاني الإسرائيلي. فهم الجميع اللغة الجديدة، وتحركوا على هذا الأساس، فكانت النتيجة خضوع إسرائيل لشروط الفلسطينيين بأن تكون الهدنة مصحوبة بوقف الاغتيالات وفتح المعابر وفك العزلة عن غزة، وهذا ما لم يحدث في غزو 2008 البري الذي توقف دون شروط.
ثالثا: الذي ساهم في هذا النصر التكتيكي، الذي كشف خارطة التحولات التي تعرفها المنطقة، هو فشل خيار المفاوضات السلمية بدون أوراق ضغط من المقاومة، فخلال ثمانية الأيام نسي العالم أن في الضفة الغربية شخصا اسمه عباس أبو مازن، وشيئا اسمه سلطة فلسطينية قبلت أن تنزع أسنانها وأظافرها، وأن تدخل إلى متاهات التفاوض السلمي مع الذئب الإسرائيلي، وكل سلاحها هو النوايا الطيبة واستجداء ضمير العدالة الدولية في عالم لا يسمع إلا صوت الأقوياء.
الآن الذي يريد أن يساعد الفلسطينيين وأن يغسل يده من العار فالطريق واضح.. دعم المقاومة بالمال والسلاح ومقاطعة إسرائيل، وترك المواطن العربي يعبر عن غضبه في الشارع بكل طريقة يراها تخدم قضيته. أقل شيء يفعله الربيع العربي أن يحول طقس إسرائيل إلى خريف دائم حتى تأتي ساعة النصر إن شاء الله.