رغم أن المذاهب السنية الأربعة (الحنبلي، والشافعي، والمالكي، والحنفي)، تتفق على أن صلاة التراويح سنة، إلا أن التعصب دفع أتباع كل مذهب إلى إقامة صلاة منفردة عن أتباع المذهب الآخر في نفس المسجد، ومن ضمنها المسجد الحرام بمكة.
وأورد ابن بطوطة في كتابه تُحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، معاينته لتعدد الأئمة في المسجد الكرام، وكتب "وإذا هل هلال رمضان تضرب الطبول والدبداب عند أمير مكة، ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام، من تجديد الحصر، وتكثير الشمع والمشاعل، حتى يتلألأ الحرام نورا، ويسطع بهجة وإشراقا، وتتفرق الأئمة فرقا، وهم: الشافعية والحنبلية، والحنفية، والزيدية، وأما الملكية فيجتمعون على أربعة من القراء، يتناوبون القراءة، ويوقدون الشمع، ولا تبقى في الحرم زاوية، ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة، فيرتج المسجد لأصوات القراء".
وجاء في كتاب الانس الجليل في تاريخ القدس والخليل لمؤلفه عبد الرحمن بن محمد عليمي "يصلي إمام الشافعية في مقام إبراهيم تجاه باب الكعبة، ثم إمام الحنفية مقابل حِجْر إسماعيل تجاه الميزاب، ثم إمام المالكية بين الركنين اليماني والشامي، ثم إمام الحنابلة مقابل الحَجَر الأسْود".
وبدأ العمل بهذه العادة على الأقل منذ سنة 497هـ/1104م، وانتقلت فيما بعد من الحرم المكي، إلى المدينة المنورة، وباقي المساجد في مصر والمشرق.
وأورد كتاب "وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى"، لصاحبه نور الدين علي بن عبد الله السمهودي، "وهذا الأمر دب إلى المدينة الشريفة من مكة المشرفة"، وتابع "السبب في حدوث ذلك بها أن الامام كان في ذلك االوقت مبتدعا، فعندما امتنع الناس من إقامة الجماعة مع إمامهم الذي أقاموه سمحوا للناس في اتخاذ أئمة لأنفسهم، واستمر الأمر عليه".
كما انتقل هذا الوضع إلى المسجد الأقصى، وقال ابن العربي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن "وقد رأيت على باب الأسباط -فيما يقرب منه- إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما، كان فيه يصلي التراويح في رمضان بالأتراك، فيقرأ في كل ركعة بالحمد لله وقل هو الله أحد، حتى يتم التراويح؛ تخفيفا عليهم ورغبة في فضلها".
بدوره قال القاضي أبو البقاء البَلَوي في "المسجد الأقصى… أعظم مساجد الدنيا" في وصفه لصلاة التراويح بالمسجد الأقصى "ولقد عددت مواضع الإشفاع وصلاة التراويح بها في شهر رمضان المعظم فألفينا نحو الأربعين موضعا"!!
وضع حد للفرقة
وكانت السلطات تتدخل في بعض المساجد للحد من فوضى صلاة التراويح، وأورد كتاب "مفاكهة الخلان في حوادث الزمان" لصاحبه شمس الدين محمد بن علي بن أحمد بن طولون الصالحي، أن سلطات دمشق أمرت "إمام الحنفية بالجامع الأموي، أمير الدين بن عون، بأن يتروح بالمقصورة ليلة، والشيخ تقي الدين القاري الشافعي ليلة، وفعل ذلك وتركت التراويح بمحراب الحنفية، ولم يسهل ذلك على متعصبي الشافعية".
وذكر الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية"، أنه كان في الجامع الأموي بدمشق محاريب متعددة للمذاهب الأربعة، ولكن في زمنه تدخلت السلطة لتوحيدهم "في صلاة التراويح، فاجتمع الناس على قارئ واحد وهو الإمام الكبير في المحراب المقدَّم عند المنبر".
ورغم ذلك ظل الوضع على حاله في الكثير من المساجد، ومن بينها المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، إلى غاية سيطرة آل سعود على الحجاز سنة 1923، حيث أمروا بتوحيد جماعة المصلين في الحرم المكي خلف إمام واحد وإلغاء المقامات الأربعة ومنع تعدد الأئمة.
وما إن توحدت جماعة الحرم خلف إمام واحد حتى انتقل الأمر إلى باقي مساجد العالم الإسلامي، فاختفت ظاهرة انقسام جماعة المسجد من العالم الإسلامي.