من فرط «إدماننا» على هذا الطقس وما يحيط به من «مظاهر سلبية»، لم نعد ننتبه إلى الصورة التي نعطيها عن مجتمع يتجند بكل قواه «الحية» من أجل الدم واللحم والصوف والشواء. الفقراء يلجؤون إلى كل وسيلة للحصول على ثمن الأضحية من السلفات التي تنهك كاهلهم، وإلى طلب المساعدات وكأنهم سيدخلون إلى السجن أو إلى جهنم إذا لم يذبحوا كبشا في يوم العيد. والطبقات الوسطى تكابد من أجل إدخال حيوان إلى عمارة يعيش فيها مئات السكان، والناس يتحولون إلى «كسابة» يبحثون داخل المدن عما يأكله الكبش. ناهيك عن «أم المعارك» يوم النحر، حيث تصير الشوارع والأحياء والساحات «سلخانات مفتوحة» في فضاءات ليست معدة بتاتا لاستقبال هذا النوع من الظواهر...
كل هذا يسائل اليوم «عقلنا الفقهي» المدعو إلى الاجتهاد لرفع العنت عن كاهل الناس الذين يخلطون بين الشعائر والمصالح والنزوات، فنسقط في صورة «كاريكاتورية». العقل الفقهي الرسمي وغير الرسمي مطلوب منه اليوم أن يجد جوابا لهذه المشكلة، كيف نبقى أوفياء لروح شعيرة دينية، -وهي سنة على كل حال وليست فريضة، وكم يضيع مجتمعنا من فرائض ويتشبث بالسنن التي يريد- وفي نفس الوقت كيف نبقى أوفياء لروح المدنية والمدينة الحديثة ولقواعد وضوابط العيش فيها.
هذه «الظاهرة» تسائل كذلك مفهوم المدينة عندنا، وهل في بلدنا مدن بالمفهوم الثقافي والجمالي والعمراني الحديث، أم إننا نعيش في صناديق مغلقة طبقات فوق طبقات. المدينة الحديثة تصور مجالي وجمالي للتواصل والثقافة والفن والعيش المشترك والطبيعة... وكيفية وضع كل هذه العناصر فوق الإسمنت والحديد والفولاذ للمزاوجة بين وظائف الطرق والبنايات والمنشآت والفنادق والمقاهي والساحات... وروح المدينة.
من يخطط لسياسة المدن عندنا؟ رجاء لا تقولوا لنا إنه الحاج نبيل بنعبد الله الذي يحمل حقيبة هذا القطاع منذ أشهر. الذين يخططون للمدن ولكوارثها هم: الإدارة والمنتخبون وحيتان العقار الكبرى والرأسمال الذي يضارب في البناء. الإدارة تعرفون أحوالها في بلادنا وافتقارها إلى أي حس جمالي أو فني أو تاريخي، لأنها أصلا إدارة وضعت في زمن الاستعمار الفرنسي، وبقيت ذاكرتها وجذورها كذلك إلى اليوم. المنتخبون معظمهم أمي بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة، وجلهم قادم إلى الجماعة وإلى المجلس والعمالة لخدمة مصلحة خاصة، وتسلق سلم اجتماعي فشل في بلوغه خارج «لعبة السياسة والانتخابات». أما أباطرة العقار فإن حساباتهم اقتصادية، ولا مكان عندهم لروح المدينة التي لا يرون فيها إلا المساحات القابلة لزرع عمارات الإسمنت ووحدات قتل الإنسان بدعوى توفير السكن الاجتماعي، وما هو باجتماعي.
صارت الأرياف تعيش ثقافة وسلوكا في قلب المدن وصارت الحياة معقدة في تدبير نمطين من العيش تحت سقف واحد.
إننا نستهلك المكان بدون إحساس، كالذي ينام مع امرأة بدون حب ولا عاطفة ولا إحساس. أحياؤنا القديمة والجديدة لا جوار بينها، والحياة في هذه الفضاءات مليئة بالعنف والقبح والتلوث... وهذه «الدراما» تنعكس على سلوك الإنسان وفكره ومستقبله.