ثلاثة أيام من النقاشات المتواصلة بين أزيد من 80 باحثا وفاعلا سياسيا وفكريا يمثلون معظم الاتجاهات السياسية والفكرية الموجودة في الوطن العربي، وبحضور رموز التيار الحركي الإسلامي بالمنطقة العربية أمثال الشيخ حسن الترابي وراشد الغنوشي وخالد مشعل..
أهمية هذه الندوة تكمن في الظرفية السياسية التي تعقد فيها والتي تتميز بصعود بعض التيارات الإسلامية في بلدان عربية مختلفة وتحملها لمسؤولية تدبير الشأن العام بعدما ظلت في الهامش خلال عدة عقود، وهو ما وضع على بساط النقاش مجموعة من الأسئلة والقضايا والإشكاليّات المتعلقة بصعود الحركات الإسلاميّة، وتحولها إلى لاعب اجتماعي وسياسي أساسي وفاعل في منظومة سياسية حديثة تستند على النظام الديموقراطي التمثيلي، وهو ما يفرض على جميع الأطراف، وفي مقدمتهم الإسلاميين، العمل من أجل التكيف مع قواعد النظام الديموقراطي والتأثير من خلال تلك القواعد.
طبعامن أهم ملامح الثورات العربية أنها فاجأت الجميع، فاجأت الطبقة السياسية وفاجأت معها الرأي العام العربي والعالمي، كما فاجأت بها الأنظمة الغربية الموالية للأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، فضلا عن الأنظمة العربية التي لم يستوعب معظمها ما حصل، وبطبيعة الحال فاجأت التيارات الإسلامية نفسها التي عاشت لحظة ارتباك حقيقي في جميع الدول المعنية وتعثرت كثيرا قبل أن تستوعب ماحصل وتنخرط في المرحلة الجديدة .. ويمكن القول بأن الإسلاميين لم يكن لهم دور كبير في إطلاق شرارة الاحتجاجات الشعبية، بل إن بعضهم وقف في وجه هذه الدينامية في البداية..
الموقف المرتبك للتيارات الإسلامية من الربيع العربي وخاصة تيارات الإخوان والقريبة من الإخوان تحكمت فيه معطيات كثيرة أبرزها طبيعة النشأة التكوينية للحركة الإسلامية المستندة على التربية والإصلاح المتدرج والرفض القاطع لفكرة اللجوء إلى العنف، وهو ما منح الحركات الإسلامية قدرة هائلة على امتصاص القمع السياسي، دون أن تمتلك الوعي الاستباقي للمبادرة في لحظة انطلاق الرجة الثورية الواعدة بالتغيير الحقيقي، وتصاب بالذهول بعد اشتعال الثورات العربية وهو ما لاحظناه في تونس وفي مصر وفي المغرب أيضا..
الآن تجد الحركات الإسلامية نفسها أمام إرث تاريخي من الممارسة السياسية ظل مطبوعا على العموم بالاستبداد والتسلط، وهو تراث يحتاج إلى تقويم ونقد فكري عميق، بالموازاة مع نقد بعض التجارب السياسية الإسلامية التي لم تستطع التعايش مع المنظومة الديموقراطية الحديثة، مع ما تفرضه مستلزمات التطور والتجديد الفكري المطبوع بمعطيات المرحلة الجديدة..
في تسعينيات القرن الماضي وقف أحد قادة التيار الإسلامي في إحدى الدول العربية ليعلن من فوق منبر الجمعة ما يلي: «أبشركم إخواني بأن الانتخابات التشريعية القادمة ستكون آخر انتخابات بإذن الله، لأن شرع الله سينزل على يد إخوانكم غداً.. شعارنا لا قانون لا دستور قال الله قال الرسول»...
اليوم حصل تطور كبير ونجحت بعض التيارات الوسطية الإسلامية في اعتبارها ضمانة التوازن لعبور المرحلة الانتقالية الراهنة، اليوم يقوم راشد الغنوشي العائد إلى تونس بعد منفى طال 20 سنة في بريطانيا، بوضع امرأة غير محجبة على رأس لائحة مرشحي حزبه في انتخابات أعضاء المجلس التأسيسي لوضع الدستور، ويقول عن مدونة الأسرة التي وضعها بورقيبة، والتي تمنع التعدد وتحرر المرأة: «إنها اجتهاد إسلامي..».. وفي مصر أسس الإخوان المسلمون حزبا سياسيا بعد سقوط مبارك بعد أن كانوا جماعة محظورة لمدة 80 سنة.. ومنحوا مواطنا قبطيا منصب نائب الرئيس في حزب كان أنصاره قبل 20 سنة يقولون إن الإسلام هو الحل. في ليبيا صرح عبد الحكيم بلحاج، أحد القادة العسكريين للثورة، لجريدة «لوموند» قائلا: «عشنا 42 سنة بلا دستور ولا قانون ولا عدل. الآن نريد دولة مدنية تحترم القانون وتطبق العدل، أما شكل النظام فيحدده الشعب... ولا نوجد هنا من أجل إقامة نظام طالبان...».
اليوم ينظر كثير من الإسلاميين بغير قليل من الإعجاب لتجربة قادة العدالة والتنمية في تركيا وكيف نجحوا في قيادة بلادهم نحو بر الديمقراطية والتنمية والازدهار منذ 2002. تركيا ضاعفت دخلها القومي في ظرف سبع سنوات بشهادة البنك الدولي، ولهذا صوت الأتراك للمرة الثالثة على مصباح العدالة والتنمية.
ويبدو بأن الجميع على إدراك تام بأن قانون التطور سيري على الإسلاميين، فالربيع العربي أثر وسيؤثر فيهم، أولا: لأن هناك قوى جديدة هي التي حركت الشارع ودفعت الإسلاميين إلى الالتحاق بها.. الشباب وجزء من الطبقة الوسطى غير المتحزبة وغير المؤدلجة، المطالبة بالحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد ومناهضة الاستبداد، والمتطلعة إلى نموذج الغرب في الحكم الديمقراطي الرشيد، والتي وقفت في الصفوف الأولى في أكثر من عاصمة عربية لتطالب برحيل الاستبداد وبإسقاط الأنظمة الشمولية التي تحكم البلاد العربية...ثانيا: لأن مستلزمات تدبير الحكم تفرض التطور وإيجاد الحلول الضرورية لمعالجة المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والتخفيف من المعاناة اليومية للمواطنين، ثالثا، وهذا هو الأهم: الديموقراطية هي حكم الشعب وليست هي حكم الأغلبية العددية فقط، وهو ما يعني ضرورة الاعتراف بحقوق الأقلية والعمل على إشراكها في تدبير المرحلة الانتقالية، خصوصا عندما تكون هذه الأقلية مؤثرة ونافذة.
قانون التطور الاجتماعي من شأنه أن يفرز حلا تاريخيا في علاقة الإسلام بالديمقراطية.. لا هو بالعلماني الحاد والمتطرف، كما عرفته فرنسا، مثلا، في ظروف تاريخية خاصة، ولا هو حل ثيوقراطي يحكم فيه الولي الفقيه نيابة عن الله... هناك خيار ثالث تسميه الخبرة الأنكلوساكسونية: التسامح المتبادل بين الدين والسياسة.. الدين يعترف بدور العقل في إدارة الشأن العام، والسياسة تقر بدور الدين وقيمه في تشكيل قناعات الأفراد والمجتمعات وتهذيب مسلكياتهم السياسية... في مثل هذه البيئة لن يسمع إلا القليلون لدعوات التشدد والتطرف ولرموز السلفية الجهادية والأصولية السياسية بكل ألوانها.
ونقصد بالحل التاريخي: الانتقال من مستوى التنظير الفكري والاجتهاد النظري إلى مستوى الفعل الميداني وبلورة حلول واقعية للناس لإصلاح معيشهم اليومي، ووضع المسافة الضرورية بين مجال الدين ومجال السياسة، لاتصل إلى درجة الفصل المطلق بينهما ولا إلى درجة التماهي والتطابق، ولكنها تؤمن بضرورة التمييز بين المجالين وفتح آفاق الاجتهاد الديني على مرحلة جديدة بات العالم العربي في حاجة ماسة إليه..