كانت عبارات الترحيب بلكنة ألمانية سليمة لوزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة من منكهات المؤتمر الصحافي الذي جمعه بنظيرته الألمانية أنالينا بيربوك في الرباط (25 غشت 2022). وفي لغة الدبلوماسية يكمن الشيطان دائما في التفاصيل الصغيرة.
فالألمان يحبون من يجتهد في تعلم لغتهم للتواصل معهم ويرون في ذلك عربون تقدير لهم ولثقافتهم. لا شك أن الوزير المغربي سعى لبعث رسائل متعددة منها: أن العلاقات بين البلدين عادت إلى مسارها الطبيعي وأن برلين والرباط باتتا تتحدثان لغة واحدة. حديث الوزير المغربي بالألمانية من قلب "القلعة الفرنكفونية" في شمال إفريقيا قد يكون فيها غمز لباريس بأن الرباط بصدد التحدث بلغات أخرى غير الفرنسية في وقت تعيش فيه العلاقات بين الحليفين التقليديين أزمة غامضة. وزيرة الخارجية الألمانية جاءت إلى الرباط لطي صفحة الخلافات ولتأسيس آفاق شراكة جديدة يعتبر الاقتصاد أحد بواباتها الرئيسية.
باللغة الألمانية.. "ناصر بوريطة"|يرحب بوزيرة خارجية ألمانيا "أنالينا بيربوك" pic.twitter.com/abJD5qx2Yz
— DW عربية (@dw_arabic) August 26, 2022
نمو الشراكة الاقتصادية رغم الأزمة الدبلوماسية
يعتبر الاقتصاد مدخلا أساسيا لفهم عالم السياسة، ورغم أن معظم وسائل الإعلام ركزت على قضية الصحراء الغربية في أجندة أول زيارة لوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى المغرب، إلا أن الوزن الاقتصادي المتنامي للمغرب في المنطقة المغاربية وفي إفريقيا يجعل منه شريكا أساسيا من وجهة النظر الأوروبية والألمانية بالتحديد. وبهذا الصدد كتب موقع "تاغسشاو" (25 غشت 2022) في مقال تحليلي لشتيفان إليرت (مكتب الرباط) مستشهدا بتصريح لأندرياس فينتسل العضو المنتدب لغرفة التجارة الألمانية في الدار البيضاء أكد أنه "في غضون عشر سنوات فقط، تحول المغرب إلى موقع استثماري مهم للشركات الألمانية في إفريقيا، ويحتل الآن المرتبة الثانية بعد جنوب إفريقيا".
واستطرد فينتسل موضحا أن قطاع السيارات كما الصناعات الكهربائية تستخدم مزايا الموقع الإستراتيجي للمغرب لتزويد الأسواق الأوروبية، مؤكدا أن الشركات الألمانية خلقت ما لا يقل عن 40 ألف فرصة عمل في المغرب. المسؤول الألماني أكد وبالأرقام أن الأزمة الدبلوماسية بين البلدين لم تنل من علاقاتهما الاقتصادية، بل بالعكس حققت المبادلات بينهما مستوى قياسيا عام 2021، وبلغت الاستثمارات لوحدها ما لا يقل عن 1,4 مليار يورو، وهو اتجاه في طور التأكد أيضا خلال العام الجاري.
الأزمة مع الرباط أولى الملفات على مكتب بيربوك
كان ملف الأزمة الدبلوماسية مع المغرب من أولى الملفات الحارقة التي وجدتها أنالينا بيربوك على مكتبها بمجرد توليها منصبها. وقد نجحت فعلا وفي وقت وجيز في استرضاء المغرب وطي صفحة الخلافات معه، بعد أن وجه الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير دعوة للعاهل المغربي محمد السادس لزيارة برلين، وذلك تزامنا مع نشر موقع وزارة الخارجية الألمانية لبيان أشادت فيه بالمغرب واعتبرته "شريكًا رئيسيًا للاتحاد الأوروبي وألمانيا في شمال إفريقيا" مؤكدة أن خطة المغربللحكم الذاتي للصحراء الغربية "مساهمة مهمة" في جهود حل النزاع.
هذا التحول في موقف برلين وإن كان لا يمكن مقارنته بالاعتراف الصريح والواضح لواشنطن بمغربية الصحراء، إلا أن الرباط اعتبرته إنجازا نوعيا جديدا واختراقا دبلوماسيا تجاه أكبر قوة اقتصادية في أوروبا.
صحيفة "زودويتشه تسايتونغ" (25 غشت 2022) كتبت أن أنالينا بيربوك شددت في الرباط على دعم ألمانيا للعملية التي تقودها الأمم المتحدة والمبعوث الخاص ستافان دي ميستورا للتوصل إلى حل سياسي عادل ومقبول للطرفين. فيما أكد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة على عدم وجود تناقض بين خطة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب عام 2007 ودور رئيسي للأمم المتحدة في حل النزاع، وأنه يرحب بموقف ألمانيا". ومع ذلك، لا يزال التوتر في أوجه بين المغرب والجزائر الداعمة لجبهة البوليساريو التي تسعى لإقامة دولة مستقلة في الإقليم المتنازع عليه، تقول الصحيفة.
كل طرق المغرب تمر عبر الصحراء
على المستوى السياسي جاءت زيارة بيربوك لتكرس عودة الدفء إلى العلاقات بين البلدين عبر بوابة تعديل برلين لموقفها من قضية الصحراء. الزيارة جاءت لتجدد العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية بفتح آفاق جديدة بين شريكين تاريخيين، مبنية على "الوضوح والثقة والتعاون" من أجل المصالح المشتركة. فقد صدر بيان مشترك بين الرباط وبرلين اعتبر "الحكم الذاتي" الذي تقترحه الرباط "قاعدة جيدة" لحل النزاع وقال البيان إن "ألمانيا تعتبر مخطط الحكم الذاتي (...) بمثابة مجهود جدي وذي مصداقية".
ويكرس البيان التحول الجوهري في موقف برلين تجاه هذا الملف، بعدما شهدت العلاقات بين البلدين أزمة غير مسبوقة دامت لشهور إثر تعليق الرباط التواصل مع السفارة الألمانية في الرباط (مارس 2021) بعدما انتقدت الدبلوماسية الألمانية في مجلس الأمن الدولي قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الاعتراف بسيادة المغرب على إقليم الصحراء الغربية نهاية عام 2020.
وبهذا الصدد اعتبر موقع "تاغسشاو" أن هناك تكهنات كثيرة حول الأسباب التي أدت إلى اندلاع الأزمة بين البلدين، لكن كان من الواضح أن "المغرب كان مستاءً من أن ألمانيا، التي ذهبت عكس اتجاه الرئيس دونالد ترامب، بامتناعها عن الاعتراف بسيادة المغرب على إقليم الصحراء الغربية".
الموقع استشهد برأي الخبيرة الألمانية في شؤون المغرب أنيا هوفمان، مديرة مكتب مؤسسة هاينريش بول في الرباط والتي رصدت تغيرا ملحوظا في العلاقات بين البلدين بالمقارنة مع العام الماضي. وقالت بهذا الصدد "أنا بدأت مزاولة عملي في هذا المكتب رسميًا منذ يومين فقط. لدي شعور بأنني وصلت في أجواء جيدة. هناك دولتان لهما مصالح سياسة وأمنية واقتصادية مبنية على قيم مشتركة، لايمكنهما إلا الاستفادة منها". الموقع أشار أيضا إلى إشكاليات حقوق الإنسان في تعامل ألمانيا مع المغرب، خصوص فيما يتعلق باعتقال صحافيين ومعارضين مغاربة بتلفيق تهم غريبة لهم يقول الموقع.
رمال الصحراء المتحركة بين باريس وبرلين
من الملفت أن تجدد برلين موقفها الداعم لحل الحكم الذاتي تزامنا مع زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للجزائر. باريس والرباط حليفان تقليديان يعيشان أزمة صامتة منذ شهور بسبب نفس القضية. وقد دأب الرؤساء الفرنسيون السابقون، كجاك شيراك ونيكولا ساركوزي، على التوجه إلى الرباط في أول زيارة لهم لبلد خارج أوروبا بعد انتخابهم في قصر الإليزيه. ماكرون اختار زيارة الجزائر أولا بعد إعادة انتخابه، وهو ما يؤكد تقارير إعلامية حول وجود أزمة صامتة بين المغرب وفرنسا.
وتعتبر المواقف من قضية الصحراء الغربية بوصلة للدبلوماسية الدولية والإقليمية لكل تحرك في المنطقة المغاربية. فإذا كانت جبهة البوليساريو المدعومة جزائريا تسعى لإقامة دولة مستقلة في الإقليم المتنازع عليه، فإن السقف الذي طرحه المغرب لن يتجاوز حكما ذاتيا تحت سيادته. فرنسا دأبت بدورها على اعتبار المقترح المغربي "قاعدة مباحثات جدية وذات مصداقية"، غير أن الرباط تنتظر من حليفها التقليدي موقفا أكثر وضوحا يدعم موقفها بشكل صريح بعد اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء.
التأكيد على مرجعية الأمم المتحدة من قبل برلين لا يزعج الرباط، فهي تسعى لتوسيع القبول الدولي لمقترح الحكم الذاتي في إطار تشرف عليه الأمم لمتحدة. ألمانيا أكدت أنها تؤيد "المبعوث الخاص للأمم المتحدة في سعيه إلى إيجاد حلّ سياسي عادل"، مع الإشارة إلى "المساهمة الهامّة التي قدّمها المغرب في 2007 للتوصّل إلى هذا الحلّ من خلال مقترح الحكم الذاتي". وبشأن العلاقات الفرنسية المغربية، أكد الكاتب المغربي المقيم في فرنسا الطاهر بن جلون في مقالة رأي في مجلة "لوبوان" الفرنسية (22 غشت) بأن "المغرب كان معتادا على علاقات استثنائية مع فرنسا، غير أن الرئيس ماكرون ليست لديه حساسية مغاربية، غير أنه مهووس بالجزائر ويعتقد أنه قادر على إصلاح العلاقات الفرنسية الجزائرية. نتمنى له حظا سعيدا".
وهناك من المحللين من يرى أن الحاجة إلى الغاز الجزائري جعلت باريس تميل في هذه المرحلة إلى الجزائر على حساب الرباط، غير أن الرئيس إيمانويل ماكرون نفى أن تكون فرنسا قد جاءت "لتتسول" الغاز من الجزائر، كما جاء في بعض التعليقات الإعلامية، لأن "فرنسا تعتمد بنسبة قليلة على الغاز في احتياجاتها من الطاقة اي حوالي 20 بالمئة وفي المجموع، تمثل الجزائر 8 إلى 9 بالمئة". وأضاف "لسنا في وضع حيث يمكن للغاز الجزائري أن يغير المعطيات"، مشيرا إلى أن فرنسا "ضمنت احتياجاتها" لفصل الشتاء و"المخزونات في حدود 90 بالمئة".
حسن زنيند