يبدو أن حرارة معركة الانتخابات الأمريكية ألقت بشظاياها على منطقة شمال أفريقيا لتشعل ديناميكيات في علاقات وأوضاع دول المنطقة، تبدو غير مسبوقة على الأقل في قوتها. ويمكن رصد بعض المؤشرات الدالّة عليها، بدءا من مخرجات الحوار الليبي وإثارة ملف حقوق الإنسان في مصر، وصولاً إلى التوتر العسكري في منطقة الكركارات بين المغرب وجبهة البوليساريو ورسائل الجيش الجزائري بعد استفتاء نوفمبر.
حسابات على رمال متحركة
شهر نوفمبر الذي بدأ بفصول الانتخابات الأمريكية المثيرة، شهدت خلاله منطقة شمال أفريقيا تطورات متسارعة، يرجح بأنها جرت على وقع رياح التغيير في البيت الأبيض.
أهم حلفاء الرئيس ترامب في المنطقة، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كان أول المهنئين لخصمه الديمقراطي جو بايدن وبدأت تلوح في القاهرة أجواء تململ في ملف حقوق الإنسان الذي يعتقد في واشنطن كما في مصر أنه سيكون، في ظل الإدارة الديمقراطية، بمثابة شوكة في خاصرة العلاقات الاستراتيجية التي تربط القاهرة بالولايات المتحدة.
وفي ليبيا، وجد الخصمان المتنازعان على السلطة في البلاد، وكذلك داعميهما الإقليميين والدوليين، في مساعي الممثلة الخاصة لأمين عام الامم المتحدة بليبيا، الأمريكية ستيفاني وليامز أرضية للبحث عن توافقات ومن ورائها مكاسب في السلطة بالنسبة للفرقاء الليبيين، وفي النفوذ والمصالح الاقتصادية بالنسبة للاعبين الإقليميين والدوليين.
إحاطة الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في &maca=ara-Yabiladi-30371-xml-msn#ليبيا بالإنابة، ستيفاني وليامز، أمام مجلس الأمن
19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020:https://t.co/CLKBzyjVra pic.twitter.com/bei9V9BgJe— UNSMIL (@UNSMILibya) November 19, 2020
لكن مخرجات المحادثات السياسية التي جرت في المغرب وتونس والمشاورات العسكرية في سرت، قبل أسبوع، بقدر ما أعطت بوادر انفراج في الأزمة عبر التفاهمات على تنظيم انتخابات في ديمسبر من 2021 وتنظيم عمليات سحب للقوات الأجنبية والمرتزقة في غضون ثلاثة أشهر. كشفت (مخرجات المحادثات) في نفس الوقت عن شكوك لدى الأطراف المتنازعة في مآلات الاتفاقات المبرمة في ظل إدارة أمريكية يعتبر رئيسها في حكم المنهزم في الانتخابات. بل إن بعض الخصوم اللدودين، قد يجدون أنفسهم في تقاطع طرق بحثاً عن مخارج بمكاسب وتقليص حجم الخسائر.
فقد كان لافتاً لأنظار المراقبين الزيارة غير المسبوقة التي قام بها الرجل القوي في حكومة الوفاق الوطني بطرابلس، وزير الداخلية فتحي باشاغا إلى القاهرة أهم حليف للجنرال خليفة حفتر. كما لم يعد خافياً بحث أنقرة والقاهرة عن مد الجسور المنقطعة منذ إطاحة السيسي بحكم الرئيس الإسلامي محمد مرسي.
واقعة الكركارات
المتغيرات فوق رمال المنطقة المتحركة، ظهرت منذ حوالي شهر في أقصى نقطة غربا في خارطة شمال أفريقيا، في الكركارات نقطة تقاطع حدودية بين المغرب وموريتانيا والمنطقة العازلة في الصحراء الغربية، التي تفصل القوات المغربية ومقاتلي جبهة البوليساريو. في هذه المنطقة الاستراتيجية التي ظلت لسنوات عديدة بعيدة عن الأضواء، نفذ نشطاء تابعون للجبهة التي تطالب بالانفصال، اعتصاماً في المعبر الوحيد الذي يربط شمال أفريقيا بغربها عبر المحيط الأطلسي. وأدى الاعتصام إلى عرقلة حركة سير المسافرين وشاحنات نقل البضائع، وشلل في شريان حركة التبادل بين المغرب وموريتانيا ومن ورائهما بلدان أوروبية وأفريقية.
وتزامنت خطوة عناصر جبهة البوليساريو بمداولات مجلس الأمن الدولي حول مهمة بعثة المينورسو المكلفة بحفظ السلام ووقف إطلاق النار في الصحراء الغربية، وقد أكدت الجبهة أنها تسعى لإعادة تسليط الأضواء على الملف الذي يشهد جموداً ملحوظاً منذ سنوات وزاد جموداً مع استقالة آخر مبعوث أممي، الرئيس الألماني الأسبق هوست كولر، "لأسباب صحية".
ولم تستجب عناصر البوليساريو لدعوات ومساعِ عديدة قامت بها بعثة المينورسو وأمين عام الأمم المتحدة ودول أوروبية، فلم يتأخر رد الفعل المغرب الذي دفع بوحدة من قواته المسلحة لإنهاء تحرك عناصر البوليساريو وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، ويبدو أن عملية تدخل القوات المغربية كانت محسوبة بشكل دقيق، إذ لم تسفر عن خسائر بشرية، وبعثت في نفس الوقت برسالة حول مجالات التحرك الأمني المغربي.
لكن رد فعل جبهة البوليساريو خرج عن سقف الترتيبات الأمنية القائمة منذ توقف الصراع المسلح قبل ثلاثين عاماً، فقد أعلنت الجبهة عن خروجها عن اتفاق وقف إطلاق النار الذي ترعاه الأمم المتحدة منذ سبتمبر 1991، بل أدت مناوشات في مناطق محاذية للجدار الرملي الذي أقامه المغرب في نهاية الثمانينات، إلى تبادل لإطلاق النار، وفق ما أكدته الأمم المتحدة.
وأدت تطورات واقعة الكركارات إلى توتر ملحوظ وتصاعد منسوب الخطاب العدائي بين المغرب وجبهة البوليساريو وداعمها الرئيسي الجزائر، وفي غضون ذلك يطرح مراقبون تساؤلات عن مصير وقف إطلاق النار المترنح.
وفيما أعلنت الأمم المتحدة أنها تسعى لإحياء محادثات السلام في أقرب وقت ممكن، تتواصل أجواء التوتر بالمنطقة ولا تخلو من رسائل موجهة إلى الإدارة الأمريكية الجديدة.
فجبهة البوليساريو التي توجد بشرياً ومادياً، لاجئون ومقاتلون، في منطقة تيندوف جنوب غرب الجزائر، يصعب تخيّل أن يكون تحركها (الجبهة) خصوصاً بطابعه العسكري، بدون ضوء أخضر من الجزائر.
وفي غياب الرئيس عبد المحيد تبون الذي يخضع للعلاج في ألمانيا، صدر بيان لوزارة الخارجية الجزائرية، بلهجة تهدئة دعت من خلاله "المغرب وجبهة البوليساريو إلى ضبط النفس" كما انتقد البيان العملية العسكرية المغربية وخرق وقف إطلاق النار، إلا أن رسائل ظهرت في وقت لاحق في بيانات لوزارة الدفاع والجيش تذكّر بالموقف الجزائري المؤيد "للشعب الصحراوي" وجاهزية الجيش الجزائري في الرد على "التهديدات من مصدرها حيث ما كان"، وكان لافتاً التشديد على أن "أمن الجزائر القومي لا يقتصر على حدودها الجغرافية، بل يرتبط بحدودها الأمنية التي تراعي التعامل مع مختلف التهديدات". وتحمل هذه الرسائل منحى جديداً في خطاب المؤسسة العسكرية الجزائرية، بعد أسابيع قليلة من إقرار تعديلات على دستور البلاد تسمح للجيش بالقيام بمهام خارج الجزائر، فيما يعتبر تغييراً تاريخياً في عقيدة الجيش الجزائري.
ولم يقتصر الجيش الجزائري على إرسال طائرت عسكرية محملة بمساعدات إلى جبهة البوليساريو في تيندوف، وصفت في بيان رسمي بـ "الانسانية والطبية في إطار العمليات التضامنية بين الجزائر والشعب الصحراوي"، بل سبقتها عمليات إظهار لقوة الجيش الجزائري من خلال استعراض ولأول مرة لصاروخ اسكندر الروسي الذي يبلغ مداه مئات الكيلومترات.
وبقدر ما تكتسي رسائل المؤسسة العسكرية الجزائرية طابعاً موجهاً لـ "عدو كلاسيكي" هو المغرب في العقيدة التقليدية للجيش الجزائري منذ عقود من الزمن، فإن قراءة هذه الرسائل يمكن أن تتجاوز نطاق الأزمة الحالية التي ما يزال حيزها محدوداً في مناطق عازلة بالصحراء. ورغم خطاب التعبئة في صفوف أعضاء البوليساريو ومقاتليها، لا توجد لحد الآن مؤشرات ملموسة على الاتجاه نحو إشعال حرب جديدة بين الجارين المغاربيين الكبيرين.
ومن المرجح أن تكون رسائل المؤسسة العسكرية الجزائرية إلى أبعد من نطاق أزمة الكركارات، فهذه المؤسسة التي انشغلت طيلة أربعة عقود من الزمن بأزمات داخلية، ورغم تراجع أسعار النفط، لم تتوقف عملية تحديث قدراتها وتجهيزاتها وخصوصاً بالاعتماد على الصناعة الحربية الروسية. وهي الآن تسعى للعب دور خارج الجزائر، ولكن هذه المهمة تصطدم بعقبات استراتيجية، أولها أن علاقات الجزائر بحلف الناتو تقتصر على التعاون وخصوصاً البحري، ولم تصل إلى وضعية "حليف رئيسي من خارج الناتو" التي يتمتع بها المغرب ومصر وتونس.
أما العقبة الثانية، فتكمن في الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، التي تضعها الولايات المتحدة في أولويات أجندتها العسكرية بالقارة الأفريقية. وتكمن العقبة الثالثة في ملف الإصلاحات السياسية والاقتصادية.
ماذا تركت إدارة ترامب لبايدن؟
في آخر رحلة له يقوم بها إلى عواصم بلدان المغرب (تونس، الجزائر، الرباط)، رسم وزير الدفاع الأمريكي مارك إيسبر معالم طريق لتوجهات السياسة الأمريكية في المرحلة المقبلة، وتبدو من خلالها عناصر الأهمية التي بات البنتاغون يوليها لهذه المنطقة.
وبقدر ما كانت اتفاقيات التعاون العسكري التي وقعها الوزير إيسبر مع المغرب وتونس، بعيدة المدى، كان رحيل الرجل - الذي يقف وراءها - من إدارة الرئيس ترامب، سريعاً. وقد تحمل هذه المفارقة صورة تبيّن إلى أي حد يعتبر صانعو السياسة الخارجية الأمريكية عابرون بينما تستمر المصالح ومحددات تلك السياسة، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بقرارات ذات طابع استراتيجي بعيدة المدى.
أما المفارقة الأكثر إثارة في السياسة الأمريكية بمنطقة شمال أفريقيا، فتكمن في التغيّر المثير في نظرة صانع القرار الأمريكي لهذه المنطقة. ففي بداية حكم الرئيس المنتهية ولايته ترامب، عُدّت المنطقة بمعيار "أمريكا أولاً" وعلى غرار مناطق عديدة من العالم، في مرتبة متأخرة من سلم الأولويات الأمريكية.
لكن تطورات عديدة حدثت في المنطقة ومحيطها جنوباً وشمالاً، أظهرت ثغرات استراتيجية بالنسبة للقوى الغربية: الولايات المتحدة وأوروبا، دفعت البنتاغون إلى مراجعة حساباته. ويتعلق الأمر بالأزمة الليبية والتدخلات الخارجية فيها، وتحديات الحرب على الجماعات الإرهابية من سوريا والعراق حتى منطقة الساحل والصحراء، ثم تزايد النفوذ الصيني والروسي في أفريقيا، وصولا إلى أزمة الغاز في شرق المتوسط بين اليونان وتركيا.
ومن صلب هذه الأزمات، ظهرت في نهاية ولاية الرئيس ترامب أولويات أمريكية جديدة تتلخص في بناء شراكات استراتيجية مع دول المنطقة لكسب الحرب ضد الإرهاب، وثانياً لكبح النفوذ الصيني والتمدد الروسي. وهي أولويات يُتوقع أن تتواصل في ظل إدارة بايدن.
واتسمت التغييرات في سياسة إدارة الرئيس ترامب بمنطقة شمال أفريقيا، برأي عدد من المراقبين، بطابع "المفاجأة" وغياب تنسيق موسع مع الحلفاء في حلف الأطلسي "ناتو". ومن دون أن يجري تنسيق عميق مع الشركاء الأوروبيين مضت إدارة الرئيس ترامب في إبرام شراكات بمستويات متفاوتة مع دول المنطقة.
وأولها عبر اتفاقيات عسكرية طويلة المدى مع الحليفين التقليديين: المغرب وتونس.
وثانياً، عبر تحرك ديبلوماسي وأمني في ليبيا، حيث أظهرت إدارة الرئيس ترامب انخراطاً أكبر في دفع مسار المحادثات بين الليبيين من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة، وتوظيف أدوار الحليفين اللدودين المصري والتركي على خارطة الأزمة الليبية من أجل إحتواء الدور الروسي.
وثالثاً، سعت واشنطن إلى تعزيز تعاونها السياسي والأمني مع الجزائر في الحرب على الإرهاب والعمل على استقرار دول جنوب الساحل والصحراء وليبيا. لكن إدارة الرئيس ترامب لم تتوصل إلى صيغة تعاون استراتيجي مع الجزائر التي تربطها شراكة اقتصادية ضخمة مع الصين واتفاقيات عسكرية كبيرة مع روسيا. إذ لم تشمل اتفاقيات التعاون العسكري مع الجزائر، وهو ما يرجح أن يُبحث مجدداً في أجندة لقاءات أمريكية جزائرية مرتقبة في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة.
تنسيق أمريكي أوروبي
ويتوقع أن يتواصل اهتمام واشنطن الاستراتيجي بمنطقة شمال أفريقيا، في ظل إعلان الرئيس المنتخب بايدن عن تكليف لشخصيتين لهما خبرة طويلة بمنطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، بأهم منصبين في الدبلوماسية الأمريكية، وهما أنطوني بلينكن مستشار الأمن القومي السابق في عهد إدارة الرئيس أوباما، بوزارة الخارجية، وليندا توماس غرينفيلد بمهمة السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، التي تولت في عهد إدارة الرئيس أوباما مهمة مساعدة وزير الخارجية لشؤون أفريقيا.
Today, I’m announcing the first members of my national security and foreign policy team. They will rally the world to take on our challenges like no other—challenges that no one nation can face alone.
— Joe Biden (@JoeBiden) November 23, 2020
It’s time to restore American leadership. I trust this group to do just that. pic.twitter.com/uKE5JG45Ts
بيد أن إعادة ترتيب أجندة السياسة الأمريكية في المنطقة، يتوقع أن يرافقها تنسيق مع القوى الأوروبية، بخلاف ما كان عليه الحال في ظل إدارة الرئيس ترامب، كما يرى انطوني دووركين كبير خبراء مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي في دراسة نشرت على موقع المركز الذي يوجد مقره بلندن، وبالتالي فإن الاستمرارية التي يرجح أن تطبع السياسة الأمريكية في المنطقة المغاربية في قضايا مكافحة الإرهاب والسعي لتطويق النفوذ الصيني والروسي، ستكون نقطة اتفاق مع الأوروبيين، لكن مهمة دعم الاصلاحات اللازمة لتحقيق الاستقرار في دول المنطقة ستكون مهمة أوروبية.
ومن أبرز قضايا الاهتمام المشترك التي يتوقع أن يجري بشأنها تنسيق أمريكي أوروبي هي قضايا حقوق الانسان ودعم فرص السلام في المنطقة، وضمنها دعم الديمقراطية الناشئة في تونس واعتبار قاعدة التوافق التي تقوم عليها، قدوة لدفع العملية السياسية في ليبيا لإنهاء الحرب، إضافة لقضايا حقوق الانسان في مصر والجزائر.
كما تشمل محاور التنسيق الأوروبي الأمريكي المتوقعة، دعم خطة السلام الأممية في الصحراء ومن المرجح أن تنطلق من حيث توقفت مع المبعوث الألماني هورست كولر وأحدث توصيات لمجلس الأمن الدولي التي تدعو الأطراف (المغرب وجبهة البيساريو والجزائر وموريتانيا) إلى الحوار من أجل التوصل إلى "حل سياسي عادل ودائم ومقبول من كل الأطراف"، حوار وضع المغرب منذ سنة 2017 على طاولته اقتراحاً بإقامة حكم ذاتي موسع في الأقاليم الصحراوية، ولقي الاقتراح دعم قوى أوروبية ودولية عديدة، بيد أن البوليساريو الآن بإعلانها عدم الالتزام بوقف إطلاق النار تريد العودة إلى نقطة الصفر في أي مفاوضات مرتقبة، مفاوضات قد تكون الجزائر حاضرة فيها أكثر من أي وقت مضى.
منصف السليمي
ينشر بشراكة مع DW