منظرو الفكر المتطرف- بالإضافة لاعتمادهم على تأويل النصوص واللجوء للتراث - لتبرير القتل والخراب والدمار، يدغدغون مشاعر المجتمع بترويج الشائعات، ومن أهمها القول إن لدينا "تطرفين"
في ثمانينات القرن الماضي ذهب الكثير من السعوديين وغيرهم إلى أفغانستان بقصد الجهاد. كثيرون منهم كانوا تواقين فعلاً لنيل إحدى الحسنيين، وربما لم يدر بخلدهم أنهم منخرطون، من حيث يدرون ولا يدرون، في سياسات دولية وإقليمية.
بُعيد الحادي عشر من سبتمبر، أبدى مثقفون سعوديون اعتراضهم على ما حدث، وأصروا أنه لن يأتي بخير على الإسلام والمسلمين، بينما ذهب عامة الناس إلى تأييد ما حدث وأنه مؤشر لسقوط الولايات المتحدة على أيدٍ إسلامية مثلما سقط الاتحاد السوفيتي بعد هزيمة نكراء بأيدٍ إسلامية في أفغانستان. وكان التعاطف والتأييد لتحالف "طالبان-القاعدة"، في المجالس ومواقع الإنترنت وأماكن العمل والتجمعات الثقافية، أمر غير مستغرب بل إنّ المستغرب آنذاك هو الاعتراض أو عدم التأييد لآراء مناصري طالبان والقاعدة! وفي تلك الفترة ظهرت فتاوى التكفير والتفسيق بحق المثقفين وعلماء الدين وأيضاً بحق السلطة السياسية في البلاد.
واستمر هذا الوضع حتى بعد أن عانت بلادنا من خطر الإرهاب والإرهابيين، منذ تفجيرات الرياض في 13 مايو 2003، ولم ينحسر هذا التأييد الجماهيري العلني إلا بعد كلمة شهيرة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حين كان ولياً للعهد، قال فيها بحزم ووضوح: "وإننا نحذر بصفة خاصة كل من يحاول أن يجد لهذه الجرائم الشنعاء تبريراً من الدين الحنيف، ونقول إن كل من يفعل هذا يصبح شريكاً حقيقياً للقتلة، ويجب أن يواجه المصير الذي يواجهونه..."
حين نريد أن نضع الأمور في نصابها، لا بدّ من الإشارة بدايةً إلى دور رجال الأمن البواسل الذين قدموا أرواحهم تضحية في سبيل الوطن، ولكن في المقابل أيضاً لا بدّ من الإشارة إلى الدور الفكري المحوري للمثقفين والإعلاميين السعوديين في التوعية بهذا الخطر الداهم (الإرهاب) وذلك ليس بكثير أبداً على هذا الوطن... أما الآن، وبعد مضي ما يقارب العقد على أحداث سبتمبر وما تلاها، نجد أن المملكة ما زالت تمرّ بين فترة وأخرى بفترات حرجة يكون الإرهاب والإرهابيون محور الأحداث والحديث.
الإرهاب هو نتيجة للتطرف الديني، وكل ما فعله المتطرفون هم يقدمونه باسم الدين للوصول إلى غاياتهم السياسية المتدثرة بدثار الدين زيفاً وخداعاً؛ ولذلك لا يمكن إغفال الأهداف السياسية في قضية الإرهاب، أي خلط الدين بالسياسة، وخاصة أن زعامات الإرهاب لا تتردد في الإفصاح عن طموحاتها وأهدافها السياسية، ولكن في الجانب الآخر يجب علينا عدم إغفال السبب الرئيس في القضية وهو: التطرف، وبالتالي يعتبر من نافلة القول أن الفكر الديني هو مصدر (التشدد الديني) والحضن الدافئ للإرهاب، ومن المهم هنا أن ندرك أن ملاحقة المتطرفين وقتلهم لن يكونا آخر المشوار إذا ما لاحظنا التشدد الطاغي على المجتمع، فالمجتمع يعتبر موردا مهما، فمنظرو الفكر المتطرف- بالإضافة لاعتمادهم على تأويل النصوص واللجوء للتراث - لتبرير القتل والخراب والدمار، هم أيضاً يدغدغون مشاعر المجتمع بترويج الشائعات، ومن أهم هذه الشائعات القول بأن لدينا "تطرفين" واحد ديني/إسلامي وآخر علماني/ليبرالي، وأن من أسباب الإرهاب تلك الأفكار التي يطرحها المثقفون!
هنا تبدو المواجهة الفكرية حقيقية: فالمتطرفون حاولوا خلال السنوات القليلة الماضية الهروب من مأزق تشويههم للدين وتوظيفهم للنصوص، ومحاربتهم لتوجهات الدولة الإصلاحية فاعتمدوا نشر هذه الشائعة كنوع من "الإسقاط"، وربما نجحوا نسبياً في اختراق المجتمع حيث بدأ كثير من الأفراد بالتأكيد على هذه الفكرة التي يقصد منها أصلاً تشتيت الانتباه عن ارتباط التطرف بالفكر الديني، حتى وصل الأمر ببعض المشايخ للتماهي مع هذه الفكرة.
من السهولة أن يقول هؤلاء المتطرفون إن الأفكار التي تعتمد عليها العلمانية والليبرالية قابلة للنقد والأخذ والرد، ولكنهم لا يقولون مباشرة ذلك لأنهم سيجدون أن الكثير يتفقون معهم بذلك بمن فيهم العلمانيون والليبراليون أنفسهم، وبالتالي فمن غير المعقول أن يقولوا مثلاً إن "الحرية" قيمة متطرفة دون أن يشوهوا مفهومها ويقدموها ممسوخة فيتحول مفهومها إلى "الفوضى" بدلاً من الحرية، إضافة إلى أن المنادين باسم الحرية لم يظهر من بينهم من يحمل السلاح ويحارب أهله ووطنه انطلاقاً من مثل هذه القيم، إذ كل ما في الأمر أن هنالك أفكاراً حرة تطرح مقابل الفكر الديني، تقوّض التطرف ولا تناسب طموحات المنظرين له.
وحين نقول "الفكر الديني" فإنه ليس المقصود الدين بحد ذاته، إنما المقصود أن تلك الأفكار الموجهة (أيديولوجياً) تنطلق بمبررات دينية ولكن ظاهرها الدين وباطنها شيء آخر (غالباً ما يكون السياسة). وبما أن التراث يمثّل المادة الخام لهذا الفكر الديني فإنه من الضروري نقد هذا التراث نقداً عقلانياً، وفق ما يعرف فلسفياً بـ"القطيعة الإبستمولوجية/المعرفية" فبهذه القطيعة نستطيع تنقية التراث من شوائبه المضرة من جهة وإبراز النافع منه من جهة أخرى، وبالتالي نستطيع أن نعتمد على تراثنا الإسلامي الجميل الذي أسهم في وقت مضى بتقدم الحضارة البشرية وارتقائها، فيكون معيناً لنا في حاضرنا ومستقبلنا، ولكن خطوة القطيعة هذه يجب أن يوازيها تعزيز للقيم الإنسانية النبيلة وفي مقدمتها الحرية والعدالة والمساواة، ورفع مستوى الوعي الوطني لدى الفرد من خلال الممارسة الفعلية للشراكة الاجتماعية عبر "مؤسسات المجتمع المدني" التي هي المساحة الواسعة التي يتحرك فيها الأفراد بالشأن العام دون قيود تقليدية.