الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
عجباً لمن يسعى وراء، المسئول الفلاني، والتاجر الفلاني، والشخص الفلاني،... لكي يرضيه فيعمل يسخط الله-تبارك وتعالى- من أجل رضا الناس، وعجباً لمن يريد أن تخرج المرأة متبرجة وسافرة ساقطة، ويسعى إلى تحقيق رغباته وشهواته، ويرضي أناس، وعجباً لمن يريد أن يُوالى أعداء الله فهو يعمل على نشر أفكارهم، ومخططاتهم، ويرضي أناس، وعجباً لمن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويتتبع خطوات الشيطان الخناس...
جاء في الحديث الصحيح، عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضا عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عنه وأسخط عنه الناس"1
أيها الأحبة إن العاقل، العاقل من يحفظ جانب الله-عز وجل-، وإن غضب الخلق. ولا من يحفظ جانب المخلوقين، ويضيع حق الخالق، فيسخط ربه.
قال المأمون لبعض أصحابه:" لا تعص الله بطاعتي فيسلطني عليك"2.
أخي الكريم: إن كثيراً من شرائع الدين ومبادئه قد غُيبت، وشوهت من قبل أعداء الإسلام، وإن كثيراً من أبناء الإسلام اليوم يتخلى عن بعض العبادات والسنن التي جاء بها الشارع الحكيم التماساً لرضا الناس عنهم فذاك يحلق لحيته، وآخر يترك امرأته متبرجة، وذاك يقطع الصلاة، وآخر يتمسح بالقبور، وذاك يعمل على ارضا أعداء الله، وآخر وآخر.... كل ذلك من أجل إرضا الناس عنهم، فأين هؤلاء من حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس".
اعلم أخي الكريم: أن اتباع هدى الله جل وعلا مخالفة هوى الناس قد يغضب هؤلاء الناس على من خالفهم في بادئ الأمر، ولكن يجب أن لا يغيب عن ذهنك أخي حديث رسول الهدى : "من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"3.
إن من يسعى لرضا الناس بسخط الله عليه ويقصد غير وجه الله-تعالى-أن يتذكر دائماً أن من أهانه الله فلا معز له ومن أكرمه فلا مهين له. قال تعالى : { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} الحج 18 . وعليه أن يستحضر ما علمه النبي-صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أن يقوله في قنوت الوتر : "وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت"4 . وعليه أن يحفظ أن من طلب رضا الله-تعالى كفاه الله مؤونة الناس, ومن التمس رضا الناس وكله الله إلى الناس, فما أجهل وأخسر من ترك ابتغاء وجه الله-تعالى-بالدعوة لأمور لا يقدر على نيلها إلا بأمر الله تعالى.
أخي القارئ الكريم: إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله, وأن تحمدهم على رزق الله, وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله, فإن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره.
أخي الكريم: إن إسخاط الله -سبحانه وتعالى- أن تؤثر رضا الناس على رضاه, وذلك إذا لم يقم بقلبك من إعظام الله وإجلاله وهيبته ما يمنعك من استجلاب رضا المخلوق بما يجلب له سخط خالقه, وربه ومليكه, الذي يتصرف في القلوب, ويفرج الكروب, ويغفر الذنوب, وبهذا الاعتبار تدخل في نوع من الشرك لأنك آثرت رضا المخلوق على رضا الله, وتقربت إليه بما يسخط الله, واعلم أنه لا يسلم من هذا إلا من سلمه الله ووفقه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله ومعرفة توحيده من ربوبيته وإلهيته.
عبد الله: وإن مما يغضب الله-سبحانه وتعالى-أيضاً أن تحمد الناس على رزق الله أي على ما وصل إليك من أيديهم بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه فإن المتفضل في الحقيقة هو الله وحده الذي قدره لك وأوصله إليك, وإذا أراد أمرا قيض له أسبابا ولا ينافي هذا حديث : "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"5, لأن شكرهم إنما هو بالدعاء لهم لكون الله ساقه على أيديهم فتدعو لهم أو تكافئهم لحديث : "ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه"6 فإضافة الصنيعة إليهم لكونهم صاروا سبباً في إيصال المعروف إليك والذي قدره وساقه هو الله وحده.
وإن مما يغضب الله أيضاً: أن تذم الناس على ما لم يؤتك الله لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم فلو قدره لك لساقته المقادير إليك فمن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده وأنه هو الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب ومن حيث لا يحتسب لم يمدح مخلوقا على رزق ولم يذمه على منع ويفوض أمره إلى الله ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه, قال تعالى : {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }فاطر:2
قال شيخ الإسلام- رحمه الله-: "... فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقناً لا بوعده ولا برزقه -أي الله-. فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤونتهم, وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم وذلك من ضعف اليقين وإذا لم يقدر لك ما تظن يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, فإذا ذممتهم على ما لم يقدر كان ذلك من ضعف يقينك فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم7.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
قال ابن رجب-رحمه الله-: "فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب ؟ أم كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب ؟ إن هذا لشيء عجاب" 8 نعوذ بالله من سخطه وعقابه، وغضبه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا إنك سميع قريب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
1 - رواه الترمذي رقم (2414)، وابن حبان في صحيحه(276)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6010).
2 - راجع: صيد الخاطر ص(252).
3 - رواه ابن حبان في صحيحه. وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6010).
4 - رواه أبو داود رقم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (1236).
5 - رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (3014).
6 - سنن أبي داود، والنسائي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم(1468).