في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأ بعض سكان البوادي في المغرب، ينتفضون على واقع الظلم والاستبداد، المسلط عليهم من قبل القياد، الذين كانوا يعيثون في الأرض طغيانا، ففضل بعضهم حمل السلاح وإعلان العصيان، فيما حاول آخرون، المساهمة في هذه الانتفاضات، بما يملكون. فلعبت النساء دورا هاما في نشر الحماس في صفوف الرجال المقاتلين عن طريق الكلمة الموزونة والصوت الجميل.
خربوشة "مولات الكلام الموزون"
قبيلة ولاد زيد بمنطقة عبدة، لم تكن استثناء، وانتفض أهلها على واقع الظلم والفساد المستشري آنذاك، واشتهرت انتفاضتها أكثر من غيرها، بفضل امرأة تدعى حادة العبدية الغياثية، الملقبة بخربوشة نتيجة للندوب التي تركها مرض الجدري على وجهها.
كانت خربوشة، شاعرة ومغنية انتفاضة قبيلة ولاد زيد وبالضبط منطقة البحاترة المعروفة بكونها من أفقر المناطق في عبدة، وقاد هذه الانتفاضة الحاج محمد بن ملوك، الذي تمكن من جمع المئات من رجال القبيلة حوله.
ولعبت خربوشة، دورا مهما في هذه الحركة الاحتجاجية، حيث سجلت أروع البطولات ضد الفساد والظلم في تلك المرحلة. فبشعرها و صوتها القوي، دونت جزءا من تاريخ المغرب، حيث كانت تحضر جلسات الثوار المقاتلين وتحاول نشر الحماسة بينهم، بقصائد تروي البطولات وتتحدث عن الصبر والثبات على الموقف في مواجهة الظلم، المسلط عليهم من قبل القايد عيسى بن عمر.
وتسلحت خربوشة برصاص الكلمات، لتكون بذلك نموذجا للمرأة البدوية المتمردة، وظلت قصائدها منذ ذلك الحين راسخة في عقول المغاربة، وتغنى بها رواد فن العيطة من جيل إلى جيل.
كانت حادة العبدية أو خربوشة كما تسمى، تحب قبيلتها، وتبغض ممارسات القائد عيسى بن عمر، الذي بطش بكل من عارضه، وكانت تشارك في انتفاضة قبيلتها، بالكلمة، والصوت، والغناء، لتصير بذلك مثالا للمرأة المغربية المنتفضة في أواخر القرن التاسع عشر، ويروى عنها أنها كانت تتميز بقدرة كبيرة على نظم الكلام، حتى أنها لقبت بـ"مولات الكلام الموزون"، واستغلت في ذلك فن العيطة الذي كان منتشرا بين سكان القبيلة.
كما يؤكد مؤرخون بأن ثورة اولاد زيد لم تكن لتنتشر شعبيا لولا أشعار حادة التي انتشرت كالنار في الهشيم وسافرت عبر امتداد الزمن.
وكان فن العيطة الذي لا يزال موجودا إلى الآن، طريقها لإبلاغ صوتها، الذي ترك أثرا كبيرا في صفوف الثائرين، مقابل نزوله كقطع من الثلج على من كانوا يأتمرون بأوامر القائد عيسى بن عمر.
عيسى بن عمر: حكنة ودهاء وظلم وجور
كان عيسى بن عمر واحد من بين أكبر وأشهر قواد المغرب، كما يشير بعض المؤرخين، على غرار ابراهيم كريدية في كتابه "القائد عيسى بن عمر وثورة ولاد زيد وواقعة الرفسة"، إلى شهرة هذا القائد الذي لم يتجاوز في تعليمه الطور الأول من الكتاب.
وتولى عيسى بن عمر زمام الأمور في قبيلة البحاترة، سنة 1879، بعد وفاة شقيقه القائد محمد بن عمر.
لكن وفي سنة 1895، حدث ما لم يكن يتوقعه هذا القائد المعروف بحنكته وذهائه، وثار سكان قبيلته عليه، بعدما تضرروا من الضرائب التي كان يفرضها عليهم، خصوصا وأنه خلال تلك الفترة، شهدت منطقتهم سنوات من الجفاف.
وتحولوا إلى أفقر سكان منطقة عبدة، نظرا لكون أرضهم صخرية ليس بها إلا بقع محدودة تصلح للفلاحة، وحتى نشاط تربية الماشية الذي كانوا يركزون عليه، كانوا يعانون فيه من تسلط القائد الذي استأثر بأجود الأراضي وجعلها ملكا خاصا له.
زواج مصلحة
ولعبت خربوشة دورا مهما في استنهاض همم المقاتلين، وهو ما لم يرق للقائد، فحاول ثنيها عن ذلك بكافة السبل، فجرب التهديد ولم ينجح وجرب الوعيد ثم الإغراء. لكن كل ذلك لم يحرك من قناعتها شيئا.
وكانت تهجوه في كل المناسبات التي كانت تحضرها بجرأة، وهو ما كان يخلف أثرا في نفوس الحاضرين، الذين كانوا يندهشون من شجاعتها.
فقرر بنعيسى اتقاء "شرها" عن طريق الزواج بها، من أجل خنق الصوت الذي كان يحرض الثائرين عليه، لكنها دبرت له مكيدة لم يكن يضرب لها حسابا.
ففي ليلة استدعى وجهاء القوم وطلب منها الغناء، فبدأت الغناء وأنشدت قصيدة تهجوه فيها وتقذفه بأقبح النعوت، وهي القصيدة التي تسببت في وفاتها.
نهاية مأساوية
لم يتقبل القائد بنعيسى، أن تمس كرامته أمام وجهاء القبيلة، فقرر الانتقام منها، وتختلف الروايات بين من يقول إنه دفنها حية في حائط، كما يروي خالد الخضري في كتابه "خربوشة المرأة العيطة" وبين من يقول إنها سجنها وماتت نتيجة التعذيب الذي مورس عليها. لكن رغم أنها غادرت الحياة، إلا أن كلماتها وأغانيها ظلت تلاحق القائد بنعيسى.
أفلام ومسرحيات
وبعد مرور عقود طويلة على الواقعة، التي تناقلتها الألسن جيلا عن جيل، قرر الكثير من المؤرخين الكتابة عنها، والنبش في تاريخ المنطقة. فيما قرر بعض رواد الفن السابع إنجاز أفلام سينمائية كالأخوين عبد الباسط وخالد الخضري اللذين ألفا فيلما تحت عنوان "خربوشة"، كما ألف آخرون مسرحيات مستوحاة من قصتها على غرار خالد الخضري، وميراني الناجي، وسالم كويندي.