الكتابة الصحفية بتجاوز الخطوط الحمراء والحواجز الشائكة، جرمٌ لا يغتفر في وطني، قد يغضونالطرف بعض الوقت، قد يوهمونك بالانفتاح، لكنهم لن يمرروا تغريدك خارج سرب المادحين وخروجك عن سياق النص المكتوب سلفا في ملهاة «الديمقراطية الوهمية». ينتظرون فقط هدوء العاصفة وتعثركفي المنعرج المظلم لتسديد الضربة.
التعبير بحرية، كالكتابة بحروف من جمر، يكاد يشبه المشي في حقل من الألغام، أو الخروج بصدرعارٍ وعيون معصوبة وسط تبادل عشوائي لإطلاق النار.. هو انتحار مع سبق الترصد والإصرار، أوحجز لتذكرة إلى الجحيم داخل زنزانة باردة.
علي أنوزلا كان ذلك الصحفي الانتحاري الذي يحيط روحه بحزام ناسف من متفجرات الصدقوالوضوح والانحياز إلى الحقيقة. بين سطور كل مقال كان يكتب وصيته الأخيرة، يوصينا خيرا بالوطنويذهب وحيدا للانفجار بحروفه الحارقة.. كان يحفر قبره بكلماته النابضة بالحياة، ويعد حقيبة السجنبإكسسوارات الحرية.
مقالاته تنتشر في العالم الافتراضي كالنار في الهشيم، يتبادلها قراؤه الكثيرون كبضاعة ممنوعة، معكل مقال تخفق القلوب خوفا عليه، ويشكك اليائسون في بقائه حرا.. وكلما عاد سالما بمقال جديد، كانالوطن يكبر فينا، ونهنئ بعضنا على نعيم حرية الرأي والتعبير وعلى ربيعنا الاستثنائي.
صباح الثلاثاء الماضي كان كئيبا بلون الخريف، استيقظنا من الحلمِ الحلوِ على الخبر المُر، خبراعتقال علي أنوزلا بتهمة نشر شريط يتضمن دعوة صريحة وتحريضا مباشرا على ارتكاب أعمالإرهابية. تهمةٌ من العيار الثقيل هي الأصلح لإقبار صحفي من العيار الثقيل أيضا في الشجاعةوالمصداقية، وهي الأقوى لإخراس صوته المزعج ولتدميره الرمزي ولنسف مساره المهني المتميز.
علي أنوزلا لم يكن فردا، كان نحن، كان مرآة غضبنا المكتوم في الحلق، كان شجاعتنا التي فقدناها فيزحمة المصالح الصغيرة، كان ضميرنا الذي كنا نتمنى، كان صوتنا الذي أخرسته رعشة الخوف، كانكرامتنا المنهزمة فينا، كان بعضنا أو كلنا رغم اختلافنا معه، كان فردا بصيغة الجمع. لهذا تطلب اعتقالهفيلقا متدربا من عشرين شرطيا، وإعدادا نفسيا قبليا وبعديا، ساهمت فيه كتيبة محترفة من المحللينوالصحفيين «المغرقين» بسيل من المقالات والبيانات الانتقامية، والبلاغات المحرضة التي تَذكّرأصحابُها فجأةً دروسَ أخلاقيات المهنة.
هل أخلاقيات المهنة هي الإشادة باعتقال صحفي والتحريض ضده؟ وأي معنى للأخلاقيات في بلد يريدمن الصحفيين أن يتحولوا إلى شعراء في المديح؟ هل نشر خبر حقيقي عن تهديد إرهابي لتنظيم القاعدةللمغرب هو خرق للقانون والأخلاقيات؟ ما هو الخيط الفاصل بين واجب الإخبار بتجرد وموضوعية،وبين إكراه الولاء لسلطة التعتيم؟ هل نشر أخبار عن مجرمين أو إرهابيين يعني بالضرورة تعبيرا عنالتعاطف أو انتماء إلى عصاباتهم؟ أين يتناقض السلوك المهني مع السلوك الأخلاقي حين يتعلق الأمربتنوير الرأي العام بخطر يهدد استقرار البلاد؟ هل الصحفي رجل أمن عليه التكتم على المعلومة أم رجلإعلام ينشر الحقيقة؟ أسئلة جدلية تطرحها قضية أنوزلا ويواجهها الصحفيون كل يوم، وجدلٌ مفتوح كانوسيظل، ولن يُحسم داخل مخافر الأمن والسجون بل في قاعات التحرير وبالانتصار الطوعي لقيم الحرية.
قد تنتصر الحكمة ويخرج أنوزلا بريئا، وقد يقضي في السجن أياما عصيبة. كيفما كان الحكم، فلنيكون أقسى من الإعدام الرمزي رجما بحجارة زملائه في الصحافة.