القائمة

الرأي

علي أنوزلا يكتب: تمسيدة ميركل

الخبر الذي شغل المواقع الاجتماعية، طوال الأسبوع الماضي، ليس زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، إلى الرياض، واحتمال التحاق الحركة بالتحالف العربي، بقيادة الرياض، ضد الحوثيين في اليمن، وإنما هو دموع طفلة فلسطينية لاجئة في ألمانيا اسمها ريم. فقد تناقلت كبريات وسائل الإعلام العالمية مقطع فيديو قصيرا، يتضمن حواراً غير متكافئ الأطراف بين المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، وطفلة فلسطينية اسمها ريم في ربيعها الرابع عشر. يبدأ المقطع بما يشبه التغريدة للفتاة الفلسطينية التي كانت تتحدث بلغة ألمانية سليمة، موجهة كلامها إلى أقوى امرأة في أوروبا، وربما في العالم، قائلة لها، في براءة الأطفال: "لدي أحلام كغيري، أرغب في الدراسة الجامعية، وهذا هدف وأمنية أتمنى تحقيقها.."، قبل أن تنهي حديثها بكلمات بسيطة وبريئة، تلخص مأساتها: "من الصعب حقا أن ترى الآخرين يستمتعون بحياتهم، فيما أنت لا تستطيع فعل الأمر نفسه". ليأتي جواب المستشارة الألمانية جافاً وصارماً مثل ملامح وجهها: "أنا أفهمك. لكن السياسة تكون أحيانا قاسية، فأنت تقفين أمامي كإنسان لطيف للغاية، لكنك تعلمين أنه في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يوجد الآلاف والآلاف من الناس، وإذا قلنا لا مانع أن تأتوا جميعا، فلن يمكننا معالجة ذلك الموقف ليس في وسعنا أن نقول للجميع يمكنكم المجيء إلى هنا". 

نشر
DR
مدة القراءة: 4'

وقبل أن تنهي ميركل حديثها، انهمرت دموع الفتاة الفلسطينية، وانخرطت في موجة بكاء، فاتجهت المستشارة الألمانية التي بدت عليها الدهشة نحوها، في محاولة لتهدئتها، ووضعت يدها على كتفها تمسدها، وهي تواسيها بعبارة جافة: "لقد قدمت الأمر بصورة جيدة"، ما دفع مقدم البرنامج التلفزيوني الذي كانت قناته تنقل اللقاء على الهواء مباشرة إلى التعليق عليها بقوله: "لا أعتقد أن الموضوع يتعلق بتقديم الأمر بصورة جيدة أم لا، لكنه في الحقيقة وضع صعب للغاية".

لم يدم هذا المقطع سوى دقائق، لكن فعله وأثره في المواقع الاجتماعية كان أقوى مما تفعله النار في الهشيم، فقد انهالت موجة انتقادات قوية على ميركل، وانتابت مستخدمي المواقع الاجتماعية موجة غضب وامتعاض كبيرين من موقفها، وجاءت بعض الانتقادات قاسية من قبيل "ميركل بلا قلب ولا رحمة"، وأخرى ساخرة: "ميركل تواجه بكاء لاجئة شابة بالتمسيد وتبرير أسباب ترحيل أسرتها"، وانتشر هاشتاغ بعنوان ساخر: "تمسيدة ميركل".

تنتسب الطفلة التي سبقت الإشارة إلى أن اسمها ريم، إلى الشتات الفلسطيني. كانت أسرتها تقيم في مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، قبل أن تنتقل إلى ألمانيا بانتظار تمديد فترة بقائها هناك، وهي تواجه احتمال الترحيل من ألمانيا في حالة رفض طلبها.

للأسف، تركز النقاش في الصحف الغربية، وخصوصاً الألمانية، على سياسة اللجوء في ألمانيا، أما التدوينات والتغريدات فوجهت انتقاداتها وسخريتها إلى قساوة قلب المستشارة الألمانية، وغابت عن النقاش قضية اللاجئين الفلسطينيين، ومن خلفها القضية الفلسطينية التي تحولت، مع الأسف، إلى مجرد قضية إنسانية.

وقد أعاد هذا الموقف التذكير بموقف مشابه للرئيس الأميركي السابق، بيل كلنتون، عندما كان في زيارة إلى قطاع غزة المحاصر اليوم. حدث ذلك عام 1998 في أثناء استقباله أطفالاً أسرى فلسطينيين، كانت بينهم ابنة أسير فلسطيني، شرحت للرئيس الأميركي الذي كانت معه ابنته، وهي في عمر الفتاة الفلسطينية، معاناتها ومعاناة أسرتها ووالدها الأسير، فلم يتمالك الرئيس الأميركي نفسه فانهمرت دموعه، فأخذ يجففها بمنديله، ثم أمسك بيد الطفلة الفلسطينية وسلمها المنديل نفسه لتجفف به دموعها، قبل أن يعدها أمام الكاميرات بأن يعمل على الإفراج عن والدها، وأن يعود لمنزله قبل العيد آنذاك. غادر كلينتون غزة، وبقي والد الفتاة الفلسطينية في زنزانته، وهي تغرق في حزنها والقضية الفلسطينية تكرر مأساتها.

تحولت القصة إلى فيلم وثائقي سينمائي عن أسر الأسرى الفلسطينيين، وجاءت حادثة الطفلة الفلسطينية مع المستشارة الألمانية لتعيد تذكيرنا بالتغريبة الفلسطينية، وسط الكم الهائل من المآسي العربية. فالتغريبة لم تعد لها جنسية واحدة هي الجنسية الفلسطينية، بل أصبحت لها جنسيات وطوائف وعشائر وأقليات، عراقية وسورية وليبية ويمنية وسنية وشيعية ومسيحية وإيزيدية ومجوسية ودرزية.

كانت القضية الفلسطينية وستبقى قضية إنسانية عادلة، يتعاطف معها كل إنسان نبيل، يكره الظلم. لكن، لا ينبغي أن نختزلها في بعدها الإنساني فقط، فهي قضية سياسية بالدرجة الأولى، تقوم على رفض الظلم وتأييد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه، وفي أن يكون له وطن حر ومستقل.

وما تكشف عنه مثل هذه السلوكات، من دمعة كلينتون إلى تمسيدة ميركل هو ازدواجية معايير الغرب المسؤول التاريخي عن احتلال فلسطين، ونفاق ساسته. فمأساة الطفلة ريم يتشاركها معها ملايين اللاجئين الفلسطينيين، ممن يعيشون في الشتات، أو تحت الحصار داخل الغيتوهات التي فرضتها عليهم إسرائيل فوق أرضهم المحتلة. ومن المحزن أن تتحول مآسي الشعوب العربية إلى حالات إنسانية، تتوسل التعاطف من العالم. نعم، لا ينبغي أن ننسى معاناة الناس البسطاء في حياتهم اليومية. لكن، لا ينبغي أن تختزل مآسي شعوب بكاملها إلى مجرد حالات إنسانية، تحتاج إلى دمعة أو تمسيدة، فما بين دمعة كلينتون وتمسيدة ميركل ستظل القضية الفلسطينية، بكل أبعادها الإنسانية الكبرى، قضية شعب مظلوم، تقاوم تجاعيد النسيان ونفاق السياسيين. 

زيارة موقع الكاتب: http://www.lakome2.com

كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال