القائمة

الرأي

“النهضة”.. المراجعة أم التكتيك؟

هل قرارات حركة النهضة الأخيرة تندرج ضمن مراجعاتٍ هيكلية للمشروع الإسلامي، تضعنا في سياق مابعد الإسلام السياسي، وتقترب من لحظة التفاعل بين محاور (ومرجعية) المشروع والقيم الديمقراطية وأفق الحداثة، أم أننا أمام تحولات محكومة بمنطق السياسة الظرفية وتنازلاتها التكتيكية؟

نشر
DR
مدة القراءة: 5'

على الرغم من التوصيفات الإعلامية التي رافقت المؤتمر العاشر لحركة النهضة التونسية، والتي لا تخلو، كالعادة، من بهارات الإثارة وإغراء العناوين، من قبيل الولادة الجديدة للحركة، أو نهاية الإسلام السياسي، وذلك كله في علاقةٍ بقرار “النهضة” الفصل بين السياسي والدعوي، فإن المتتبعين لم ينظروا إلى الأمر من باب المفاجأة الكبرى، أو الفتح المبين في المسارين، الفكري والحركي. ليس فقط لأن مجلس شورى الحركة، وقبل شهور من عقد المؤتمر، كان قد سبق أن أعلن عن هذا القرار. ولكن، أساساً لأن الثورة التونسية، وما رافقها من عودة قيادات “النهضة” من المنافي إلى الداخل، للاشتباك المباشر في العملية السياسية المعقدة، لما بعد هروب بن علي، كانت قد شكلت نقطة بداية تحوّل مفصلي داخل العقل السياسي والمذهبي للحركة، اصطلح على تسميته مسار “التونسة”، وهذه تعني، هنا، القطيعة المعلنة مع المرجعية الإخوانية، وتأكيد الارتباط العضوي مع الدولة الوطنية، فضلا عن مراجعاتٍ مذهبيةٍ همت التفكير في قضايا الدولة والإصلاح وعلاقة الديني بالسياسي. على أن بعضهم ذهب، في قراءة خلفية قرار الفصل بين وظيفتي الدعوة والسياسة، إلى أعمق من ذلك، رابطاً بين هذا الموقف وتاريخ من المراجعات، جسّدتها كتابات الشيخ راشد الغنوشي وأدبياته، منذ سنوات.

في الوثيقة المركزية التي عرضت على مؤتمر الأسبوع الماضي لحركة النهضة، يبدو قرار “التخصص” مندرجاً ضمن رؤية أشمل للعملية السياسية، ذلك أنه يعني، في العمق، التمييز بين الوظيفة السياسية للأحزاب والوظائف الدعوية والثقافية والخيرية للمجتمع المدني، وذلك كله مع الوعي بالدور الرئيسي للدولة التي ينبغي دعم قوتها، وفرص تكريس أولوياتها، وبينها ضمان العدل وتحقيق المطالب المشروعة التي قامت من أجلها ثورة الشباب والكرامة.

يوضح تحليل الخطاب المرافق لقرار الفصل والتخصص أن الأمر ترافق مع رغبةٍ في إعادة تعريف حركة النهضة، من جماعةٍ بهويةٍ احتجاجيةٍ إلى “حركةٍ تقود الدولة، وتؤسس لفكر الدولة”، والانتقال من حالة الحركة الإسلامية التقليدية إلى وضعية الحزب الوطني المدني الجامع الذي تتطابق توجهاته كلياً مع دستور تونس الجديد الذي أكّد على مدنية الدولة، وعلى احترام حقوق الإنسان، وعلى طبيعة النظام السياسي التونسي الجمهوري، وعلى أن تونس دولةٌ حرةٌ مستقلة، الإسلام دينها والعربية لغتها.

لا بد أن يقود التفكير في حدود هذا التحول، وفي طبيعته، كذلك إلى النظر في فرضية الحديث

عن جيلٍ جديدٍ من الإسلام السياسي المغاربي، حيث بقدر ما تتعزّز مساحات التقارب في الأطروحات السياسية والفكرية والمذهبية لتيارات الإسلام الحركي في المغرب العربي، بقدر ما تترسّخ مساحات التباعد مع المرجعية المشرقية الإخوانية، سواء في طبيعة التقدير السياسي العام للتعاطي مع مشمولات العملية السياسية وبنية الدولة الوطنية ومشاريع الإصلاح والتوافق الوطني، أو على مستوى التفكير في قضايا الدولة والدين، وفي مسألة الشريعة الإسلامية.

من ذلك، مثلاً، ما يمكن لمسُه من تقاطعاتٍ بين نموذج الفرز الوظيفي بين الدعوي والسياسي لدى كل من حزب العدالة والتنمية المغربي وحركة النهضة التونسية، على ضوء مخرجات مؤتمرها العاشر، أو ما يمكن قراءته كتطابق في كتابات بعض قادة الحزبين، مثل سعد الدين العثماني ورفيق عبد السلام، وزيري خارجيتي المغرب وتونس السابقيْن، في مرحلة ما بعد الربيع العربي.

يعتبر الأول أن “الخلافة الإسلامية ليست نظاماً سياسياً محدّداً، ولا نموذجاً معيارياً للقياس، بل مجرد تجربةٍ تاريخيةٍ وممارسةٍ بشريةٍ وإنسانية، فالأصل في ذلك حيادية النظام السياسي الذي يبنيه المسلمون، باعتباره بناءً بشرياً اجتهادياً، يمكن أن يملكه مواطنون غير مسلمين، كما يمكن اقتسامه نموذجاً مع مجتمعات أخرى، ما يجعل مصطلح “الدولة الإسلامية” مليئاً بالالتباس والغموض، خصوصاً عندما يُفهم منه أن الله تعالى أمرنا بإنشاء هذه الدولة تماماً، مثل ما أمرنا بالصلاة والصوم”. أما الثاني فيؤكد أن “المهمة التاريخية المطروحة اليوم ليست إقامة الدولة الإسلامية أو العلمانية، بل قيام دولة محايدة وغير تدخلية، لكنها، في الوقت نفسه، تلتزم باحترام المجتمع وثقافته العامة، فليس من مشمولات الدولة تحديد نظام القيم العامة واختيارات الأفراد، بقدر ما يقتصر دورها على تنظيم الشأن العام”. أما “الشريعة فهي لم تعن في التاريخ الإسلامي، أبداً، مدوّنةً قانونيةً مكتملةً ومغلقةً، على نحو ما يفهمه القانونيون المحدثون، بقدر ما كانت تعني المنظومة القيمية والروحية العامة التي يدخل من ضمنها التشريع، بمعناه العام، حيث لا ينفصل الأخلاقي عن التشريعي”، وهو ما يجعل التحدّي المطابق للمرحلة لا يتجلى في “حسم قضايا الهوية والخيارات المجتمعية باتجاه العلمنة أو الأسلمة، على نحو ما تطالب المجموعات العقائدية، بل في توفير فضاءٍ حر ومفتوح، يتيح لمختلف الأفكار وأنماط الحياة أن تتعايش مع بعضها في كنف الاحترام والاعتراف المتبادل، وفق ضوابط الدستور وأسس المواطنة”.

هل يتعلق الأمر، إذن، بمراجعاتٍ هيكلية للمشروع الإسلامي، تضعنا في سياق ما بعد الإسلام السياسي، وتقترب من لحظة التفاعل بين محاور (ومرجعية) المشروع والقيم الديمقراطية وأفق الحداثة، أم أننا أمام تحولات محكومة بمنطق السياسة الظرفية وتنازلاتها التكتيكية؟

منبر

حسن طارق
أستاذ جامعي، برلماني
حسن طارق
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال