القائمة

الرأي

في سيكلوجية الإخفاق السياسي

كانت انتخابات 4 شتنبر 2015 بالمغرب حدثا سيكولوجيا بكل المقاييس، التقط فيها المتتبع السيكولوجي ملاحظات قد تفيده في محاولة فهم التوجه السيكو-سياسي العام في البلاد ونتائجه المستقبلية المتعلقة بمرحلة المخاض التي يعيشها البلد للخروج بأقل الأضرار على المستوى الفردي والجماعي من تمثل قديم للسياسة وتسيير الشأن العام إلى تمثل جديد. وفي هذا الإطار شكل خطاب الملك لـ 20 غشت 2015 فاصلا حاسما في في بداية تشكيل تمثل جديد لأداة من أدوات العمل السياسي، ونعني الإنتخابات. من هذا المنطلق يعتبر الخطاب أول خطوة، بل أقواها، في طريق الإنتقال من منطق الرعية إلى منطق المواطنة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى للمسؤولية، بل وكذا للحرية والكرامة. لم يسبق في تاريخ المغرب أن شعر الناخب بأهية صوته كما شعر بها هذه المرة، وخير دليل على ذلك نسبة المشاركة في الإنتخابات؛ التي وعلى الرغم من وجوب تطويرها، كانت جد مهمة. لكن الملاحظ هو أن الأحزاب السياسية لم تستوعب بما فيه الكفاية مدى أهمية هذا التحول في عقلية الناخب، حيث أن الغالبية العظمى أسرت على الدخول معمعة الحملة الإنتخابية بعقلية قديمة. وبهذا فإن الأحزاب قد ساهمت مرة أخرى في تعميق الهوة بينها وبين الناخب. وقد نشرح عدم توجه ما يناهز نصف الناخبين إلى صناديق الإقتراع إلى هذه النقطة، لأن الحملات لم تحاول القيام بنوع من "المصالحة" بينها وبين الناخب واكتساب ثقته، بقدر ما نفرته منها وعززت الشعور بعدم الثقة أكثر، نظرا للطريقة التي قيدت بها حملات الكثير من الأحزاب، التي أيقظت في لاوعي الكثير من المواطنين الشعور وكأن البلد في حالة حرب حقيقية، وبالخصوص في الأماكن التي استعمل فيها العنف الفزيقي بين الفرقاء أو حتى الهجوم على مقر سكنى بعض المرشحين. كان الشعار الضمني للكثير من الأحزاب هو الفوز بأي ثمن كان، بما في ذلك تسخير المال، وهنا بالضبط نلمس بيت القصيد فيما يخص موضوعنا.
 

كانت انتخابات 4 شتنبر 2015 بالمغرب حدثا سيكولوجيا بكل المقاييس، التقط فيها المتتبع السيكولوجي ملاحظات قد تفيده في محاولة فهم التوجه السيكو-سياسي العام في البلاد ونتائجه المستقبلية المتعلقة بمرحلة المخاض التي يعيشها البلد للخروج بأقل الأضرار على المستوى الفردي والجماعي من تمثل قديم للسياسة وتسيير الشأن العام إلى تمثل جديد. وفي هذا الإطار شكل خطاب الملك لـ 20 غشت 2015 فاصلا حاسما في في بداية تشكيل تمثل جديد لأداة من أدوات العمل السياسي، ونعني الإنتخابات.

من هذا المنطلق يعتبر الخطاب أول خطوة، بل أقواها، في طريق الإنتقال من منطق الرعية إلى منطق المواطنة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى للمسؤولية، بل وكذا للحرية والكرامة. لم يسبق في تاريخ المغرب أن شعر الناخب بأهية صوته كما شعر بها هذه المرة، وخير دليل على ذلك نسبة المشاركة في الإنتخابات؛ التي وعلى الرغم من وجوب تطويرها، كانت جد مهمة. لكن الملاحظ هو أن الأحزاب السياسية لم تستوعب بما فيه الكفاية مدى أهمية هذا التحول في عقلية الناخب، حيث أن الغالبية العظمى أسرت على الدخول معمعة الحملة الإنتخابية بعقلية قديمة.

وبهذا فإن الأحزاب قد ساهمت مرة أخرى في تعميق الهوة بينها وبين الناخب. وقد نشرح عدم توجه ما يناهز نصف الناخبين إلى صناديق الإقتراع إلى هذه النقطة، لأن الحملات لم تحاول القيام بنوع من "المصالحة" بينها وبين الناخب واكتساب ثقته، بقدر ما نفرته منها وعززت الشعور بعدم الثقة أكثر، نظرا للطريقة التي قيدت بها حملات الكثير من الأحزاب، التي أيقظت في لاوعي الكثير من المواطنين الشعور وكأن البلد في حالة حرب حقيقية، وبالخصوص في الأماكن التي استعمل فيها العنف الفزيقي بين الفرقاء أو حتى الهجوم على مقر سكنى بعض المرشحين. كان الشعار الضمني للكثير من الأحزاب هو الفوز بأي ثمن كان، بما في ذلك تسخير المال، وهنا بالضبط نلمس بيت القصيد فيما يخص موضوعنا. 

نشر
DR
مدة القراءة: 7'

من الطبيعي ومن المشروع أن كل إنسان وكل حزب يتتوق من وراء مشاركته في الإنتخابات الفوز بأكبر قدر ممكن من الأصوات.

على المستوى الواعي المحظ، يتعامل المرشح مع احتمالين واردين في أرض الواقع: إما اختياره أو عدم اختياره من طرف الناخب. وبما أننا لم نترب لا أسريا ولا اجتماعيا على قبول الفشل كحدث طبيعي في الحياة، ودافع لتجنيد القدرات والمهارات الشخصية للنجاح، بل نعتبره فرادى وجماعات شيئا سلبيا بطبيعته، فإننا نستقبله بسلوك نفسي شاذ تماما. إذا خلت نتائج الإنتخابات من مفاجئات وإعادة تقسيم الأدوار السياسية في المجتمع، فإنها سوف لن تستحق هذا الإسم.

إذا تأملنا بعمق ردود فعل بعض القادة السياسيين مباشرة بعد الإعلان عن النتائج الجزئية للإنتخابات، فسيكون بالإمكان رسم الملامح العامة لنوعية الشخصية السياسية التي لم تفهم بأن الإنخراط في العملية الديمقراطية هو انخراط كذلك في منطق "إما وإما"، يعني إما إقناع الناخب أو عدم إقناعه. فعندما لا يقبل من لم يحصل على النسبة المأوية من الأصوات التي كان يضن بأنها من حقه واقع الأمر، فإنه ضمنيا لا يقبل قرار الناخب، بل يعزز فرضية كونه لا يرى في الناخب إلا وسيلة للبقاء في السلطة بأية وسيلة كانت. فإضافة إلى عامل الإرث الثقافي الذي تحدثنا عنه، والذي "يمنعنا" شعوريا ولا شعوريا من تقبل "الإخفاق"، فإن مجموعة من الميكانيزمات النفسية الدفينة تبدأ بالإشتغال عندما يقع "الفشل". إذا حاولنا ولو في عجالة وبطريقة عامة الإقتراب أكثر من البنية النفسية "للفاشل" انتخابيا، فإننا نلمس بأنها تشبه في الكثير من جوانبها ميكانيزمات التمثل العام للفشل في ثقافتنا.

أول ما يقع في حالة الحدوث الفعلي للفشل، أكان بالكامل أو جزئيا، هو تلك الصدمة النفسية العميقة، التي تحجب عن المعني بالأمر كفاءة رؤية الأمور واقعيا. وأول ميكانيزم نفسي يُطلق عُقاله في باطن الشخص هو ميكانيزم دفاعي غير معقلن، يحمل فيه سبب إخفاقه إلى خصمه أولا وأخيرا. فتجربة الفشل هذه تدفع كل تجاربه السابقة بالفشل منذ طفولته إلى المستوى الواعي، وهي التي تساهم مباشرة في تعميق الجرح النرجسي عنده وتعمي بصره وبصيرته لاستيعاب مقولة ونستون تشرشل: "النجاح هو القدرة على الإنتقال من فشل إلى فشل دون أن تفقد حماستك". وككل صدمة نفسية، فإن صدمة الفشل الإنتخابي تكون بمثابة انهيار العالم الداخلي للمرء أمام عينيه، وتعميق شعوره بأنه كان عالما مبنيا على رمال هشة، وهذا ما يقوده لاشعوريا إلى استباق الزمن الفعلي، ليعكس ذاته في المستقبل ويتمثلها وكأنها لا شيئا، لأنه أسس كل شخصيته على تمثل نفسه كرجل سياسية ناجح، ذا سلطة وجاه، يصول ويجول في صالونات النخبة، بل يصبح هو نفسه جزء منها.

ويُشعل هذا الضياع والتيه الوجودي النفسي كل مصابيح خيبة الأمل فيه ويؤدي إلى اكتئاب لحظوي عميق، قد يتعمق إذا لم يُعِدْ المعني بالأمر السيطرة على زمام الأمور فيما يخص ذاته. وقد يقود واقعيا إلى سلوكات تُجيَّش فيها مشاعر الإنتقام بأي ثمن من العدو الواقعي أو المفترض، ويكرس كل مجهوداته وطاقاته في التخطيط لمثل هذا الإنتقام، وبالخصوص إذا كان الناجح يشبهه في التركبة النفسية بسقوطه في منطق المناوشة ومتابعة الملاسنات التي سبقت النجاح، بل عَقَرَ المنهزم بالمزيد من الضغط على مكان الجرح إلى أن يتعفن كليا، ويتعفن به ومعه الحقل السياسي برمته من جديد ونقوم بخطوات إلى الوراء، عوض خطوة إلى الأمام.

إذا لم يستغل المرء أجواء الإنتخابات التي مرت بنا استغلالا عقلانيا وإذا لم تنتبه الأحزاب السياسية إلى مسؤوليتها التربوية للمجتمع في ممارستها للسياسية وغيرت منطقها من منطق "الأعداء" و"الخصوم" و"المنازلات الحربية" إلى منطق "المنافس"، فإننا سوف لن نصحح وعينا الفردي والمجتمعي فيما يخص "النجاح" و"الفشل"، وسنستمر في إنتاج الفشل في كل الميادين ولن نتخلص من شغب الملاعب ولا من الهدر المدرسي كتعبير صارخ على قمة الفشل الفردي والجماعي وإنتاج طابورات من المواطننين يفقدون الثقة في نفوسهم وفي محيطهم الإجتماعي والسياسي. إننا نعيش منعرجا حاسما في حياتنا المجتمعية كمواطنين ونخطو إلى الأمام بإيقاعات مختلفة السرعة، وعلى الأحزاب برمتها اللحاق بقطار تغيير العقلية المغربية عوض الركون إلى الإعتقاد القديم في كون السياسي هو الذي يقود الأمور.

فقمة مجد كرامة الشعب ستتحقق عندما يجتمع كل المتنافسين السياسيين فوق خشبة عمومية أما هذا الشعب الكريم، الصبور، المتحمل، النشيط ويهنأ من لم يستطع إقناع الناخب زميله في العمل السياسي الذي استطاع ذلك، ويمد هذا الأخير يده لزميله، كرمز لقبوله في أهم عمل سياسي في الديمقراطية ألا وهو "المعارضة"، التي لا تعني في الحقل السياسي الديمقراطي التعارض والتناحر والإقتتال، بل التكامل في خدمة إرادة الشعب.

منبر

الدكتور حميد لشهب
عضو المجلس البلدي لمدينة فيلدكرخ النمساوية
حميد لشهب
كن أول من يضيف تعليق على هذا المقال